علاقة الأدب بالحياة.. التعبير عن هموم العصر وتطلعات الشعب والوطنية والموضوعات العامة



للأدب علاقة واضحة بالحياة، إذ ان ارتباط كل واحد منهما بالآخر حتمي لارتباطهما بكيان الانسان.
والإنسان هو محل التجارب الحياتية وكاشف خفايا الوجود و المساهم في النّهضة البشريّة كما  أنه  الأساس في بناء دعائم الانسانية،
وعلى هذا فإن ما يصدر عنه أو حوله يمس حياته و يلمس نفسه، ومن هنا كان عليه أن يتفاعل مع كل هذا ومع مجالات الحياة.

إنّ التجربة الإنسانية تُعدّ المحرك الرئيسي للأديب، لذلك فإنَّ الأدب يأخذ قيمته من مدى ارتباطه بحياة الناس وهمومهم ومعاناتهم، وهذا النوع من الأدب هو الذي يستمد قوة الوجود ويستحق الديمومة والاستمرار.

فالأديب لا يمثل نفسه فحسب، بل هو يمثلها ويمثل الآخرين، فهو يعيش في مجتمع، يتصل فيه بالناس كافة، يعرف مشكلاتهم، ويحس بها.

وقد كان عرب الجاهلية يجعلون بروز شاعر منهم حدثًا احتفاليًا. فالشاعر صوت قبيلته الناطق بمجدها و المدافع عنها، وليسَ ذلك فحسب، بل إن الشعر الذاتي الذي لا يُعبر به الشاعر إلا عن نفسه كالفخر الفردي و الغزل و الشكوى من الشيب و العاذلات و نحوه.. هو صورة لوجدان كثيرين غيره.

فكل هذه تجارب إنسانية تُعمم على آخرين حتى و إن كانت تخصه.  
وفكرة الربط بين الأدب والحياة لم تبرز بصورة جلية إلا في العصور الحديثة إلا أنها كانت موجودة في كل العصور القديمة؛ فالعلاقة بين الشعر والحياة قديمه قِدم التعبير الأدبي.

فالشعر القديم لم يكن منفصلا أبدًا عن قضايا الناس الحيوية ومشكلاتهم الاجتماعية فالشعر الصادق – مهما كان تعبيرًا ذاتيا عن صاحبه – إنما يمس من قريب أو بعيد ظروف الحياة التي يعيشها المجتمع سواءً أكان الشاعر نفسه على وعي بهذه الحقيقة أم لا ولكن النقد لم يأخذ بهذا الوعي بمقدار أخذه بالاعتبارات الفنية.

وهناك قصائد كثيرة لها أهميتها الكبيرة من وجهة النظر الاجتماعية فعندما نقرأ للمتنبي والمعري وابن الرومي وغيرهم نجد ذلك التفاعل القوي بين الشاعر وظروف مجتمعه ونجد  فضلاً عن القيم الفنية قيمًا اجتماعية إنسانية عبّر عنها الشاعر.
وهُناك تساؤلات تعددت عليها الأجوبة فيما يخص علاقة الأدب بالحياة.

فهل الأدب - أصلا- وليد الواقع الذي يعكسه الأديب ويعبر عنه؟
أم أن الأدب دلالة على موقف الإنسان وانعكاس لذاته تجاه الواقع؟
أي، هل الأدب مرآة للواقع؟ أم انعكاس لموقف الأديب من هذا الواقع؟

ولقد تعددت الإجابات منذ عصور ما قبل الميلاد، فأفلاطون يرى أن الإبداع  يقوم على محاكاة الواقع، والمحاكاة من وجهة نظر أفلاطون هي التقليد فالأدب نسخة عن نسخة.
ولذلك فقد اعتبر الشعراء مُقلدين و طردهم من جمهوريته الفاضلة.

 أمَّا تلميذه أرسطو فقد بنى رؤيته على فلسفته الخاصة بالفن، فهو يرى بأن الفن محاكاة للطبيعة والإنسان، إلا أن هذه المحاكاة تختلف أداتها باختلاف الفنون، ويتميز الأدب عن غيره من الفنون باتخاذه اللغة أداة له.

ويرى أن الشعر محاكاة للواقع و لكنَّ مفهومه للمحاكاة يختلف عن مفهوم أفلاطون، فهو يرى بأنَّ الشعر لا يتقيد في مضمونه  بالحقيقة الواقعية الدقيقة التي لا هدف لها إلا المعرفة.
لأنًّ مجال الشعر هو الممكن و المثال. أي تصوير ما نعتبره ممكنًا أو ما كان يجب أن يكون.

فحدود الشعر هي الإمكان والمثالية للتأثير في البشر وهز وجدانهم.
فمحاكاة الواقع في الأدب لا تعني نقله كما هو، فهذا نوع من التوثيق من مهمة المؤرخ و ليس من مهمة الأديب.

و في العصر الحديث نجد الناقد الإنجليزي (كولردج) يقول : "الأدب هو نقد للحياة" وهو بذلك يحدد علاقة الأدب بالحياة، فيرى أنَّ ارتباط الأديب بواقعه هو ارتباط جدلي. فهو يعبر عن انفعالاته تجاه هذه الحياة و عن موقفه منها.

أما ميخائيل نعيمة فيقول، بأن "الشعر  هو الحياة باكية وضاحكة، ناطقة وصامتة، مولولة ومهللة، شاكية ومسبّحة، مقبلة ومدبرة".
والإجابات وإن تشابهت ظاهريًا فإنها تختلف باختلاف اتجاهات الأدباء.

فميخائيل نعيمة على سبيل المثال وإن رأى أن الأدب هو الحياة فهو لا يقصد بذلك أَنْ يلتزم الأديب بالتعبير عن الحياة في عصره و هموم هذا العصر، بقدر ما يقصد بذلك أن يلتزم الشاعر التعبير عن نفسه وعن حياته و همومه، يدلّ على هذا موقفه من الشاعر أحمد شوقي الذي يبتعد عن الذاتية المغرقة في شعره و يتجه بشعره للآخرين ويُعبر عن الموضوعات السياسية والاجتماعية.

يقول ميخائيل نعيمة في هذا الإطار: "إن مَن يرى شوقي في ميزان العقاد يشـْفِق على شوقي، وتكاد شفقته تنقلب نقمة على الناقد الذي لم يشأ إلا أن يكسر رجليِ الجـبّار الخَزَفي ليرى الناس أنه من خزف".

ويقصد في هذه العبارة نقد العقاد لشوقي في كتاب (الديوان)  فقد انتقد انشغال شوقي بالتشبيهات الحسية عن لبُاب الحقائق، وأحاسيس النفوس، وانشغل بمتابعة المناسبات عن صدق التعبير عن الحياة.

فقد كان المجددون العرب المتأثرون بالأدب الغربي كالمازني و العقاد و ميخائيل نعيمة يرون بأن  تعبير الأدب عن الحياة يعني تعبير الأديب عن موقفه من الحياة وتجاربه فيها تعبيرًا تغلب عليه الذاتية المفرطة.

في حين رأي الكلاسيكيون السابقون لهم كأحمد شوقي و حافظ إبراهيم  أنَّ ارتباط الأدب بالحياة كامن في التعبير عن هموم العصر وتطلعات الشعب والوطنية والموضوعات العامة ليكون الأدب هادفًا و معبرًا في آن واحد.

 وقد تبلورت بعد ذلك فكرة (الفن للحياة) أو (الفن للمجتمع).
فالشاعر حينما يتعامل مع واقع حياته فإنه يتعامل معه تعاملًا إنسانيا يتماشى مع واقع مجتمعه وفهمه له.
و قد نتج عَن هذه الفكرة مفهوم الالتزام في الأدب.

والالتزام  هو مشاركة الشاعر أو الأديب الناس همومهم الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية، والوقوف بحزم لمواجهة ما يتطلّبه ذلك، إلى حدّ إنكار الذات في سبيل ما التزم به الشاعر أو الأديب.

والالتزام في الأدب يعني أَنْ لا يكون الأدب ذاتيًا، بل يكون غيريًا معبرًا عن الآخرين و موجهًا لهم.
وقد استغلت الشيوعية الروسية مفهوم الالتزام في نظريتها الأدبية التي سميت بالواقعية الاشتراكية، فأقطاب الشيوعية أدركوا أثر الفنون بعامة، والأدب بخاصة، في بناء المجتمعات وتكوين العقول، إذ يقول ستالين: "الفنانون والأدباء هم مهندسو البشرية".. ومن ثم فقد حرَّم (النظام الشيوعي) على كل أديب أن ينتج أي لون من ألوان الأدب، يعارض المذهب الذي اعتنقته الدولة، وارتضته للشعب .. وبذلك عُدَّ الأديب المعارض للعقيدة الماركسي خائناً لأمته وقضاياها، منحازاً إلى أعدائها.

وأخذت الشيوعية تطبق مبدأ "الإلزام" القسري عن طريق سلطة الحزب أو سلطة الدولة، فهي تغدق على الأدباء الملتزمين أصناف الرتب والامتيازات بينما تضيق الخناق على غير الملتزمين، و بذلك تحول الأدب من الالتزام إلى الإلزام.

أمَّا في المذاهب الحرَّة الأخرى فقد ظهر مفهوم آخر مضاد للالتزام في الأدب, و مضاد لفكرة (الفن للمجتمع).
وهو مفهوم (الفن للفن) القائم على فكرة تحرر الأدب من أي قيمة يمكن أن يحتويها الكلام إلا قيمة الجمال، وألا يُنظر فيه إلى معايير خلقية أو دينية أو قيم نفعية.

فمهمة الأدب نحت الجمال، من أجل بعث المتعة والسرور في النفس.
فهو مذهب يهدف إلى جعل الشعر والأدب فناً موضوعياً في ذاته، همه استخراج الجمال.

و خُلاصة هذا أنَّ ارتباط الأدب يرتبط بالحياة ارتباطًا وثيقًا.
فهو إن لم يعبر عنها و إن لم تنعكس فيه كما هي, فإنها ستنعكس فيه كما ينبغي أن تكون أو كما هي كائنة في وجدان الأديب و تفكيره.