(دماغ الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله وإتقانه ومننه وعظيم إحسانه؛ فالدماغ قادر على معالجة ما يصل إلى 30 بليون معلومة في الثانية، وفيه نحو ستة آلاف ميل من الأسلاك، ويحوي الجهاز العصبي للإنسان عادة حوالي 28 بليون عصبون، وكل عصبون من هذه العصبونات عبارة عن حاسب آلي ضئيل الحجم له استقلاله الذاتي، وهو قادر على معالجة حوالي مليون معلومـة..»، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
إذا علمنا هذا؛ فإن قدرات هائلة مما زوَّد الله بها بني آدم يقتلها الناس وهم لا يشعرون؛ من خلال ممارستهم السيئة تجاه الإبداع والمبدعين.
ـ لقد دلت بعض الدراسات أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، (إن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين وإمكاناتهم في ارتقاء مستمر، في حين تقل النسبة تدريجياً كلما تقدم السن حتى لا يبقى سوى 2%)؛ فأي فرصة تضيع وأي إبداعات تهدر؟!
ـ إننا نخطئ كثيراً في التعرف على الإبداع، حين نحس أنه مرادف للذكاء والتفوق، وليس هذا بالضروري، بل إننا بهذه النظرة القاصرة نفقد صوراً من الإبداع لا تراها العيون.. فقد دلَّت الدراسات على أن لدى كل واحد منا جانباً إبداعياً في شخصيته، وسيظهر ذلك حين نحسن استخراج الإبداع ونفتح المجال له، وقد قيل: (العقل كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تُفتح)، وهكذا الإبداع لا يشرق حتى يُطلق.
- وحين لا نتعامل مع الإبداع بطريقة صحيحة؛ فإننا لسنا نخسر إبداعه فقط، بل إن مجرد إغفال الإبداع سيسبب للأمة أزمات ويخلق لها مشكلات هي عنها بغناء، (والغنم بلا راعٍ ليس له مرعى)؛ يعني: أنها ستتجاوز مرعاها فتفسد زروع الآخرين أو تقع في فم الذئب الضاري! يقول أحد المشتغلين بقضايا الإبداع: إن عقل الطفل ابن الخامسة يشبه بركاناً له فوهتان: واحدة هدامة، والأخرى مبدعة، ونحن بقدر ما نوسّع مدى الفوهة المبدعة؛ نوقف الفوهة الهادمة. ا.هـ.
- وإذا فرض عدم وجود آثار سلبية لإهمال الإبداع؛ فإن الإبداع قد يتوجه ـ إن لم يوجه ـ إلى ما لا نفع فيه، فنقع في مشكلة (هدر الطاقات) دون أي عائد يذكر!! ذُكِرَ أن رجلاً جاء إلى أحد الخلفاء العباسيين فعرض عليه لعبة بارعة بأن يثبت إبرة في الأرض، ثم يرمي وهو واقف إبرة أخرى فتدخل في سُمِّها، ثم يرمي الثالثة والرابعة.. إلى المئة كل إبرة تدخل في سُمّ الأُخرى، فلما انتهى أَمَرَ له الخليفة بمئة دينار ومئة جلدة، فعجب الرجل!! فقال الخليفة: مئة دينار لبراعتك، ومئة جلدة لانشغالك فيما لا طائل من ورائه!
إن علينا مسؤولية عظيمة في توجيه الإبداع ورعايته، والسعي الجاد في تهيئة المواقع التي تنمّيه، والمحاضن التي تغذّيه وتحسن توجيهه، ومن ثم تنعم بالاستفادة منه.
وينبغي من أجل رعاية الإبداع التنبه إلى ما يلي:
1- إن الإبداع من أجل أن ينمو ويزهر يحتاج إلى بيئة آمنة داخلية وخارجية تضمن له الاستمرار في الإبداع، وزيادة العطاء وروعة الإنتاج؛ فحين يسمع الابن في البيت عبارات الاستهزاء وألفاظ الازدراء والتنقُّص تنهال عليه من أبويه أحدهما أو كلاهما، أو من إخوته وأقاربه وجيرانه، فإن ذلك سيقيد حركته ويجعله يضرب أخماساً بأسداسٍ قبل أن يقدم على فعل شيء ـ ماذا تفعل.. هذا جنون.. دعنا من عبثك.. لا تكلف نفسك عناءً لا طائل منه ـ وغيرها من الكلمات التي نقولها نطفئ بها ثورة في نفوسنا دون أن نعرف عواقبها.. فهل سينمو الإبداع في مثل هذه الأرضية؟!
وحين يجد مثل هذا التندُّر والتنقيص في محيط مدرسته يوجَّه إليه من معلميه أو من زملائه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ضمور اهتماماته، وفتور عزيمته، وخبوّ ذهنه، ومن ثم التفاته عن إبصار كل نقطة تفوّق لديه.
2- لا بد من أجل نمو الإبداع من التشجيع وتقديم الحوافز، وإعطاء نوع من الأمن الذي يجرئ المتربي على مزيد من الإبداعات، ولا بد أن تُثار في نفسه روح المغامرة والتحدي من أجل إثبات الذات دون غرور أو جنوح. كان ابن شهاب ـ رحمه الله ـ يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يتبع حِدَّة عقولهم)، (وفي مسابقة أجرتها مجلة إنجليزية شهيرة وجهت فيه سؤالاً للأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأدب، فكانت الإجابة الفائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع!!»، وقالت: «إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير!!».
3ـ ثم إن مما يجعل بعض جوانب الإبداع تختفي لدى المتربي هو أن المربي قد يكون يعيش ميولاً معرفية محددة، وأنماطاً حياتية معينة تجعله لا يبصر الحياة إلا من جهة ميوله ورغباته الخاصة؛ فهو يبصر كل إبداع يتوافق مع ميوله، في حين تغيب عنه صور من الإبداع كثيرة تجري من بين يديه ومن خلفه دون أن يراها؟! لذا فإن على المربي أن يقيس الأعمـال والتصــرفات، لا من جهة توافقها مع أنماطه وميوله ورغباته الشخصية، بل يجب أن يقيسها بنظرة شمولية واسعة تجعله أقدر على اكتشاف صور أكثر من الإبداع المختفي حول حواجز الرؤية المحدودة والنظرة المحجمة الضيقة التي يعيش فيها المربي.
4ـ وحين يخفق المبدع مرة؛ فإن من الواجب ألا يُعَيَّرَ بإخفاقه ويُحَمَّل مسؤولية ذلك وحده ويُتخلى عنه، على حد قول القائل: (يداك أوكتا وفوك نفخ)، بل يجب أن يواسى ويُشد من أزره، ويثنى على مبادرته وخطوات العمل التي قام بها؛ إذ هي في حد ذاتها جهد يحتاج إلى شكر، ثم بعد ذلك يعلم أن في العالم ناجحين كُثراً أخفقوا في محاولات كثيرة؛ لكنهم لم يقنطوا ولم يرضوا أن يحكموا على أنفسهم بالإخفاق الدائم، بل إنهم رأوا أن كل حالة إخفاق فإنها لا بد ستدلهم على اكتشاف طريق مسدودٍ قد غاب عنهم، أو أسلوب غير صحيح يتم تلافيه في تجربة أخرى جديدة... لا بد أن يقال له وبوضوح: (إنك لن تعدم الفائدة حتى في إخفاقاتك).
إن علينا ـ معاشر المربين ـ ونحن نطلب مزيداً من إطلاق الإبداع؛ أن نمتلك حاسة شم قوية تنفذ إلى مواطن الإبداع في شخصية المتربي، وتجيد توظيفها والتعامل معها.
التسميات
التربية
