منذ يومين أثناء قيامي بجولة حول العالم في ثمانين قمرا على التلفاز، لفت انتباهي منظر غريب على إحدى تلك القنوات (الوطنية) أو التي تزعم بأنها كذلك، كان المنظر عبارة عن سيدة 'هواوية' اعتلت خشبة المسرح وهي تتمايل وتتراقص بطريقة غبية عبثية مثيرة للضحك والغريب أن الأغنية، والعازفين، وثلة المنشدين وكورال الفرقة الموسيقية، كانوا يعزفون ويغنّون في حفل وطني، وكانت ترانيمهم هي الطامّة الكبرى:
(طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع بسلاحي وإيماني طالع .. حربنا حرب الشوارع .. إلخ).. مصيبة .. مصيبة والله أننا نطلع لعدونا بلحن وغانية بدل المدفع والدبابة، ومصيبة أننا لم نحزم جيوشنا بحزام ناسف، وإنما حزمناهم بخصر راقصة! مصيبة أن حربنا حرب ثرثرة وغوغاء! مصيبة أننا لم نجهز من شعوبنا سوى حناجر صدئة لا تنفخ على حشرة ولا تخيف حتى أُنملة!
إن أزمة الأغنية والفن الهابط نعاني منها إجمالا في العالم العربي، ولقد رضينا في البدايات أن تواكب الأناشيد والأغاني الوطنية مسيرة المعارك والحروب، لكنها اليوم زحفت وتزحف لتحل بديلا عن الفعل العسكري والإرادة المقاوِمة! وإن شئت انظر إلى ذاك الكم الهائل من الأغاني الذي تروّض من أجلها قنوات وإذاعات لا مرمى لها سوى التخويف الواهي وإيهام الخصم بالتسلح والتذرع.. أما الفعل الحقيقي وقت الشدة.. فمفقود مفقود مفقود!
والحقيقة أن قضيتنا مع الغناء تتوسع من دائرة الإمتاع والمؤانسة إلى دائرة الإسكار (بكسر الهمزة وليس برفعها 'مثل حالنا') والتخدير، وربما التنفيس الساذج إن صح التعبير، وهذا ما يشكّك في عروبة تلك الجهات التي تدعم الوسط والوسيط والوساطة الفنية ـ واكتساحها عقول الشباب وتتفيه المستوى العقلي والذوقي للمتلقي العربي، حتى فيما يسمى بالأغنية الوطنية التي كان لها شيء من القداسة الروحية، لأنها حُكما تنطق بأنفاس الشهداء، وتعكس صرخات أبطال المقاومات على مرّ التاريخ النضالي!
أما عن مزاعم تلك القنوات، فإنها تدّعي إحياءها التراث الفلسطيني - مع التحفظ طبعا على اختزال تراثنا الفلسطيني بالأغاني والأهازيج والأزياء الشعبية والحياة الاجتماعية والشخصيات المؤثرة في مسيرة الجرح الفلسطيني - وعلى الطرف الآخر نجد قنوات غنائية أخرى تدعي بأنها تنطلق دعما للمقاومة والمقاومين ، فلا تكمل الشهر أو الشهرين دون إنجاز شيء سوى التصفيق والدبك، إلى أن تبدأ رحلة التسوّل في إطار أن القناة بحاجة إلى دعم وممولين، وكأنها قناة التحرير العربي ومفتاح حل لكل الأزمات!
ولربما لم يسبق لشعب من الشعوب أن احتفى بتراث من الأغاني الوطنية كما يحدث في عالمنا العربي الآن على مدى قرن مضى، لكن القفزة النوعية التي تضيفها هذه الأغاني هي زيادة حجم البؤس العربي، بحيث يصل حدّ الإشباع برعشة راقصة وهزة منديل، أي بما يشبه سياسة بث الصور المشوهة والمقززة بصورة متكررة إلى أن تعتادها العين وتتقبلها النفس فتراها كل صباح ومساء دون أن تحرك ساكنا، وكذا الأغنية الوطنية التي فُرِّغت من مضمونها وهدفها، إذ من المسلَّم به أن الأغنية الوطنية ثورية وتُصنع صناعة، لأن لها هدفا نبيلا في شحذ الهمم والطاقات وإعلاء شأن المقاتلين في ساح الوغى، بل هي الصوت الناطق بإسم الأدب المقاوم! فماذا حلّ بنا وكيف تتبدل المفاهيم ، وحينما تكتسح الفضائيات طولا وعرضا بهذه العبثية وهذا المجون الصاخب فإنما هي عبث وكسر لبقية ماء الوجه الذي نحاول أن نحافظ عليه!
وإذا أردنا أن نقدّم نظرة عامة حول الأغاني وواقعها في العالم العربي الحزين، فإن الوضع مزرٍ وغير مسؤول أبدا، فمن المعروف أن الفنون نتاج فكري يقفز بالشعوب إلى مراحل متقدمة من الحضارة والرقي بعد أن يكون نتاجها المادي من صناعة ومادة وتكنولوجيا قد اكتمل ونضج، ولكننا في العالم العربي نشهد ظاهرة عكسية ، فبدل الصعود من المنتج الصناعي والحضاري إلى المنتج الروحي الفني، ننطلق من قمة الفنون والملاهي إلى لاشيء.. لا صناعة .. ولا منتج جدير بعقولنا، مما يقود إلى فراغ وتخلف حضاري غير قادر على البناء والعطاء!
والغريب أن هذه القنوات الساذجة تخرج من دائرة المساءلة الأمريكية والمطاردات الدولية، (ليس بداعي توسيع مساحة الحريات طبعا)، في حين يلتف الحبل بشدة على عنق قناة 'الأقصى' (مثالا)، لنستشعر عمق المؤامرات المحاكة ضدنا، والتي تقرر عنا مسبقا ما يضر وما ينفع، وطبيعة الأثر والمؤثر وما ينبغي لأمثالنا من شعوب تأكل الملح والثرى أن تعاينه، وما لا ينبغي لها من رفع الجبين وإبصار الثريا!
تحية طيبة لقناة 'الأقصى' ولكل قناة تحمل هذا النفس الثوري الحقيقي، وقد تتسلل أقنعة كثيرة إلى درب الشرفاءـ إلا أنها لابد وإن خالت نفسها تخفى على الناس .. تُعلَمِ!
هدى سعد
التسميات
تواصل