إننا نجابه أزمة في المعقولية (Intelligibilité)؛ فالفجوة تتعمق بين ما يجب فهمه، والأدوات التصورية الضرورية من أجل فهم هذه الأزمة أو إدراكها. فهل يجب الخضوع أو الانقياد مع "خيبات الأمل في العالم" كما ذكر ذلك ماكس ويبر (Max Weber)، بعد أن تأكد أو تحقق من اختفاء أو غياب المشروع الجماعي؟
لقد أصبح العالم مقلوباً بشدة، بسبب التغيرات التكنولوجية الرهيبة، واستمرار الفوضى الاقتصادية، وارتفاع درجات الأخطار البيئية. وتترجم هذه المجموعات الثلاث من الاضطرابات بشكل خاص، عن طريق القلاقل الاجتماعية وظهور أشكال جديدة من الفقر والاستبعاد، وتفجر التفاوت أو عدم المساواة، والأزمة في قمع العمل، والانزعاج العميق من تصرفات السلطة، ومن البطالة الكثيفة، ومن التقدم اللامعقول في تكاثر النزعات القومية، ومن بروز الأصولية، وكره الأجانب، وعمليات تنشيط الطلب القوي جداً للتمسك بالأخلاق، وانطلاق الهموم الأخلاقية.
إن العالم يجابه، نموذجين جديدين، يبنيان طريقة التفكير، في هذا الظرف من خيبات الأمل، ومن الريبة.
النموذج الأول؛ هو الاتصال، ولهذا، هناك ميل لأن يحل التقدم شيئاً فشيئاً محل وظيفة أحد النماذج الرئيسة التي كانت سائدة في القرنين الأخيرين، فمن المدرسة، إلى المشروع أو الشركة، من العائلة، إلى القانون، وإلى الحكومة، في جميع المجالات، تطبيق كلمة وحيدة، من أجل جميع المؤسسات، بعد اليوم، هي الاتصال بدلاً من النظام، على وجه الوجوب أو الضرورة لقد كان هم القادة الديموقراطيين، منذ مائة عام، رفع مستوى التعليم وتطور القوانين الاجتماعية، وزيادة القدرة الشرائية للفئات المحرومة، باسم فلسفة التقدم "العلمي، والثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي". ويدور الأمر على خفض التفاوت أو عدم المساواة بين الأفراد، وذلك بالعمل على تقدم المحرومين الكثر. وذلك من أجل العمل على تراجع العنف، انطلاقاً من مبدأ أن المجتمع المتحضر هو المجتمع الذي يستبعد العنف، ويطرده من صدره، وأن التفاوت، أو عدم المساواة، هو مصدر العنف عندما يبلغ نسباً مشينة.
إن إبدال أيديولوجية التقدم بالاتصال (Communietion)، يؤدي إلى الاضطراب في جميع الأنظمة. ويفسد مهمة السلطة السياسية نفسها. ومن هنا، تصبح المنافسة المركزية أكثر نشوزاً فأكثر، بين السلطات ووسائل الإعلام الجماهيرية خصوصاً تلك التي تؤدي ببعض القادة أو الزعماء إلى رفض المواضيع الاجتماعية. ذات المكانة الأولى، والمقامة تحت شعار (المساواة) و(الأُخوة)، بشكل مفتوح. وأصبحت السلطة التنفيذية، ترى هذا النموذج الجديد، وقد صار محققاً أو منجزاً، بشكل أفضل، فأصبح محل اهتمام لدى وسائل الإعلام ولدى السلطة نفسها.
أما النموذج الأخر، فهو السوق، التي حلت محل الآلة، والساعة، والتنظيم، ففي السوق تُؤَمِّن الميكانيكيات وسير العمل وتطور النظام في الساعة مثلاً ما من قطعة زائدة، وجميع عناصرها أو جميع قطعها متضامنّة في هذا المجاز أو هذه الاستعارة الآلية يمارس كل فرد وظيفة أو مهمة مفيدة، بأفضل ما يكون سير العمل للجميع، الموروث من القرن الثامن عشر في أوروبا، كما لو كان الأمر يتعلق "بمجتمع ساعة –اجتماعية". وتتابع الاستعارة أو المجاز في المجالات الاقتصادية والمالية. كل ذلك، يجب أن يُرَتب بعد اليوم، طبقاً لمعايير "السيدة السوق"، التي أصبحت العلاج التام والقطعي، في الاقتصاد وطبقاً للقيم الجديدة! الربح، المنافع، المردود، المنافسة، التزاحم وهكذا، في المرتبة الأولى.
وتتتابع قوانين السوق، مع القوانين الآلية "التي تحرك حياة النجوم والكواكب، والطبيعة، والكون كله"، فيصبح التاريخ، كتوضيح عام لحركات المجتمعات. وهنا أيضاً، يكون الأقوى فقط هو الذي يحقق الانتصار، أما الأضعف من الناس، فهم المستبعدون أو المطرودون، حسب شِرْعةِ السوق. وتصبح الحياة مطلق كفاح، بل غاية. وتفرض الداروينية الاقتصادية، والداروينية الاتجاه "إلى الدعوات المستمرة إلى المنافسة، وإلى الاقتصاد وإلى المطابقة، وهي تنطلق ذاتياً لتفرض نفسها".
وينقسم الأفراد إلى "قادرين على الأداء"، و"غير قادرين على الأداء" في هذا النظام الجديد؛ بعبارة أخرى، مِنْهم من هم جديرون بأن يندمجوا مع السوق، ومنهم من لا يستطيع أن يندمج مع السوق. ولا تعرض السوق السلامة أو الخلاص، إلاّ على "القادرين على الأداء".
أما الآخرون، فلديهم إلهامات ربانية، بأن يصبحوا مرفوضين مطرودين، مهمشين، مستبعدين، لأنه يمكن أن يصبح (الخاسرون) في الصورة الاجتماعية "الجديدة "التي توقفت عن جعل التضامن البشري حتميّاً". سلعة كاسدة.
ويشكل هذان النموذجان الجديدان –الاتصال والسوق -، العمودين اللذين يستند عليهما النظام العالمي المعاصر، ولا يجري في نطاق تطور مع تكثيف شديد، بحيث أصبح النشاط مالكاً لأربع خواص رئيسة: العالمية، الديمومة، المباشرة، والتجريد. وأصبحت هذه الرباعية تشكل رأس الحرية، في العولمية، وهي الظاهرة الرئيسة والحاسمة في زماننا.
فما هو النظام المحكوم بـ"العولمة، أو العالمية، والديمومة، والمباشرة، والتجريد؟ ذلك النظام الذي يحض على النشاطات "المالية، والتجارية، والثقافية، والإعلامية"، حيث لها أربع صفات رئيسة! كوكبية، ودائمة، وفورية، ومجردة. هذه المميزات الأربعة تستدعي أربع خواص رئيسة من الرب نفسه. ومن واقع أن هذا النظام، يرتفع إلى مرتبة الألوهية الحديثة، وسيتطلب هذا التكفل بها، والاعتقاد، والتعبد أو العبادة، وطقوساً أخرى جديدة. كل ذلك، ولها ميل بعد اليوم، لكي تتسنم مهمة معايير: للكرة الأرضية، وللديمومة، والفورية، والمجردة: قيم تتعلق بأصحاب أسواق المال، والمبادلات التجارية، والقيم النقدية، والمعلوماتية، والاتصالات، والبرامج التلفازية، والوسائل الإعلامية والمتعددة، وعلوم الثقافات.... الخ. لهذا، يجري الحديث، سواء عن الشمولية، Globalisation)) أو عن العولمة Mondialisation)).
وتشكل الأسواق المالية، النموذج المركزي، فهي تُفْرضُ كعلم، أو كمرجع، وليس كالعلوم الطبيعية، الآلية، النيوتونية، أو علوم الكيمياء العضوية، بل حساب الاحتمالات، نظرية الاتصال، نظرية الفوضى، المنطق العائم، وعلوم الأحياء.
والمال، هو لَب هذا النظام وكذلك الصدفة، وعدم اليقين، والفوضى، حيث تصبح ثوابت قوية لقياس التناغم الجديد، في عالم اليوم الذي لم يتوقف فيه الفقر والأمية، والعنف والمرض، عن التزايد. في هذا العالم، حيث يمتلك خمس السكان الأغنى فيه (80%) من المصادر، في حين يمتلك الخمس الأفقر ما يكاد يبلغ (0.5%) من هذه المصادر. إنه عالم تمثل فيه قيمة مبالغ العقود في أسواق المال، حوالي خمسين مرة، من قيمة التبادلات التجارية الدولية....
إذن، أصبحت الأسواق عاجزة عن توقع المستقبل، وسياق مستقبل الإنسان، والبيئة، وفي التخطيط لتوسع المدن، وفي خفض التفاوت، أو عدم المساواة، وفي العناية بالتصدع الاجتماعي، لأنها جميعها مأخوذة بالزمن القصير وبالكسب الفوري.
فمن هم السادة الحقيقيون للعالم، مع بداية هذا القرن الحادي والعشرين؟ ومن يملك حقيقة السلطة، من وراء المظاهر الخادعة؟ إن طرح مثل هذا يعني التأكيد، أن الحكومات، تنتخب، في أغلب الأحيان، بعد معارك انتخابية ملحمية، ثم تجد نفسها، عاجزة، عن مواجهة قوى مرعبة، كوكبية عالية المستوى. وهذه لا تشكل، إطلاقاً، كما يتخيل بعض الرومانسيين السلفيين نوعاً من الأركان العامة الخفية التي تتآمر في الظلام، من أجل التسلط والسيطرة السياسية على الكرة الأرضية. ويتعلق الأمر بالأحرى، بقوى تعمل على هواها، بفضل التطبيق المباشر لتفسير كتابها المقدس وهو الليبرالية الجديدة
Néoliberalisme)) من قبل كل من يطيع كلمات الأوامر المحددة، المتعلقة بـ التبادل الحر، والخصخصة، والنقد، والمنافسة، والإنتاجية إذن، يمكن أن يصبح الشعار: "جميع السلطات للأسواق".
فقد عرفت التجارة، وأسواق الأموال "البورصات"، وسائل الإعلام، بين المجالات الأخرى، تفجرات حقيقية، مشجعة بواسطة تكنولوجيات جديدة. وأعطت ولادات اقتصادية من طراز جديد، يبرز قوانينها الخاصة، وتمركز مراكزها الإنتاجية وتنقل رؤوس أموالها بسرعة الضوء، وتستثمر في هذا الجانب، أو في الجانب الآخر من الكرة الأرضية إنها لا تعرف حدوداً، ولا قيوداً، ولا دولاً ولا تفاوتات. تسخر من كل سيادة وطنية، ولا تبالي بالآثار الاجتماعية، وتضارب ضد الأموال، وتحدث الكساد الكبير، وتسخر من الحكومات.
وعندما لا تكون شريكة، تبدو وقد تصرفت على هواها، وتظهر عجزها عن إيجاد الحلول، على مستواها، لألف مشكلة رئيسة –كالبطالة الكثيفة، المتسببة عن نشوب المنافسات الجديدة. ويتغلب على المواطنين، عدم الثقة أكثر فأكثر، تجاه (النخبة) المدعية، أيام حدوث مثل هذه الأوضاع. ويتساءل المواطنون عندئذ، عما سيكون عليه الإصلاح السياسي، لمعالجة مثل تلك الأزمات، وما هي الحلول التي يجب المباشرة بها، على المستوى الدولي، من أجل فرض سيطرة ديموقراطية، على هؤلاء، سادة العالم الجدد؟.
هؤلاء، هم الذين يشنون معارك انتخابية لا تنتهي، في الديموقراطية، من أجل الاستيلاء على السلطة، ديموقراطياً، فهل يعلمون بأن السلطة قد تغيرت، في بداية القرن الحادي والعشرين؟. وبأن هذه الأماكن المحددة قد أصبحت صحارى. تصنع الحدود السياسية.؟ فهل لا تتعرض لخطر أن تصبح عرضة لتظهر عجزها بسرعة كبيرة؟
وخائفة، أن تنفي عن نفسها ذلك؟ ومن التحقق أن السلطة الحقيقية هي في مكان آخر؟
لقد نشرت مجلة أسبوعية كبرى، استطلاعاً حديثاً. كانت نتائجه: أنه ليس "من بين الخمسين إنساناً، الأكثر نفوذاً أو حظوة، على سطح الكرة الأرضية" رئيس دولة، أو حكومة، أو وزير، أو عضو مجلس نواب. كما لم يدرج من بين هؤلاء منتخب، من أي بلد كان. وتحققت أسبوعية أخرى، "من أن الرجل الأكثر نفوذاً في العالم"، ليس "ويليام كلنتون، أو هلموت كول، أو بوريس يلتسين، أوجاك شيراك، أو بوش الابن، بل بل غيتس (Bill eates)، رئيس شركة ميكروسوفت Microsoft، الذي يهيمن على الأسواق الاستراتيجية في مجالات المعلوماتية، والذي يستعد للسيطرة على الطرق السريعة للمعلوماتية.
فقد خَدَّرَ الخراب العلمي والتكنولوجي، الفرضيات الليبرالية الفائقة
(Libérale –ultra)، القائلة "دعهم يعملون، دعهم يمرون"، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، في مجالات عديدة. وشجعها سقوط جدار برلين، واختفاء الاتحاد السوفياتي، وانهيار الأنظمة الشيوعية، بشكل كبير، فكانت عولمة التبادلات خاصة، من الدلائل التي سارعت الخزعبلات. قد أدت الثورة المعلوماتية والإتصالات، إلى تفجر الأسواق المالية وشبكات المعلوماتية، نتيجة ضربة عنيفة، كقطاعين منفصلين بأنظمة عصبية حقيقية للمجتمعات الحديثة.
لقد أصبح انتقال المعطيات بسرعة الضوء (300000) "كيلو متر في الثانية" أصبح تافهاً أو مبتذلاً، بالنسبة للأقمار الصناعية الخاصة بالاتصالات، وتعداد الصور والأصوات والعودة، مع النصوص. فقد أحدثت الثورة في الهواتف النقالة أو المحمولة، وتعميم المعلوماتية، في معظم القطاعات الإنتاجية، وفي الخدمات، وعمليات التصغير حتى الحد الأدنى (Miniaturi sation) في الحواسب "الأورديناتور"، ووضعها في شبكات الإنترنيت، على مستوى العالم، أحدثت اضطراباً، في النظام العالمي شيئاً فشيئاً.
إن كل العالم، وعالم المال بشكل خاص، يتم فيه التبادل في الحال في مدى أربع وعشرين ساعة، على أربع وعشرين، ونقل معطيات من هذا الطرف، إلى أقصى طرف على الكرة الأرضية. وأسواق المال الرئيسة مرتبطة بعضها مع بعض وتعمل في دارة واحدة، دون توقف في حين أن آلاف الشباب، من أصحاب الشهادات العالية، ومن أصحاب المواهب العالية، يقضون أيامهم، أمام شاشاتهم الإلكترونية، وهم يعبرون عن العقلية الاقتصادية السائدة. ولهم على الدوام مبررهم، حيث فرض عليهم النظام الاجتماعي، وحتى الإنساني هذا السلوك.
مع ذلك، تعمل الأسواق، استناداً إلى الثوابت السائدة في أغلب الأحيان، مستندة إلى بسيكولوجية البازار، باعتبار أن السوق المالية قد سيطرت على دوائر المنتجات الجديدة، بسبب هذه الهيمنة المالية، التي أصبحت معقدة ومسيطراً عليها من قبل أصحاب مليارات الدولارات. فمن يستطيع من الخبراء، أن يعرف جيداً، من يغطي هؤلاء، دون التعرض للخطر، كما حدث للبنك البريطاني بارنجز (Barings)، عندما أعلن عن إفلاسه عام (1995). ويشكل مثل ذلك التصرف، مكسباً هاماً في الصفقات التجارية، وهي ما أن تبلغ بضع عشرات في العالم، لتحقيق أكبر ربح لها، على لوائح الأسعار والأموال، حتى تعلن عن إفلاسها. وهذه من الأمور الهامة بالنسبة لسادة الأسواق والمال.
ولا تستطيع الدول القيام بأي شيء في مواجهة قوة هؤلاء العمالقة الماليين. وقد أظهرت الأزمة المالية المكسيكية التي حدثت في نهاية كانون الأول عام (1994)، بشكل خاص، ثقل الاحتياطات المكدسة، من رؤوس الأموال، في الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا وفرنسا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة وكندا، في مواجهة الضربات المالية المتعلقة بصناديق الاستثمار فعلى سبيل المثال لنحلم أنه قد جاءت الدولة العظمى على الكرة الأرضية "أي الولايات المتحدة الأمريكية"، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، جاءت معاً لتجمع حوالي (50) مليار دولار، في أكبر جهد مهم مالياً، وقد قبلت بالعمل للمرة الأولى في تاريخ الاقتصاد الحديث لصالح بلد ما –المكسيك، بالنظر إلى ذلك. إنه مبلغ ذو شأن عظيم. حسن، وشيء آخر تسيطر الصناديق الثلاثة الأولى الأمريكية للمعاشات، وحدها على (500) مليار دولار، والصناديق الثلاثة هي! الفيداليتي إنفستمانت (Fidelity Investment) والفانغارد غروب، (Vanguard Group) والكابيتول ريسيرش (Capithl Research).
ويركز المديرون لهذه الصناديق بين أيديهم سلطة مالية، ذات مدى غير مسبوق، وما من وزير اقتصاد، وما من حاكم مصرف مركزي في العالم، يملك مثل هذه المبالغ. ويمكن أن تؤدي الانتقالات الفظة في هذه المخازن المالية المؤتمنة والموثوق بها، إلى عدم استقرار اقتصادي لأي بلد ما، في سوق أصبح آنياً، وعلى مستوى العالم.
وقد اجتمع قادة سياسيون لقوى رئيسة عالمية، في نطاق ندوة دولية، في (دافوس) سويسرا) وحيث قيل. بصراحة، كم يخشون حدوث هياجات إنسانية قوية، قد تسببها صناديق المال العملاقة هذه. إذ تتجاوز هذه الثروات الخيالية، الحكومات بأكملها، وتتحرك وفق هواها، على مساحات غير محدودة من الأرض، في الأسواق الجيومالية. فهي تشكل نوعاً من الحدود الجديدة أي مناطق جديدة، بها يتعلق مصير جزء كبير من العالم، دون عقد اجتماعي، ودون قوانين ناظمة، أو موافقات أو اتفاقيات، ودون واجبات، باستثناء تلك التي يتصدق بها هؤلاء الأبطال، تعسفياً، لمصالحهم الكبرى أو العظمى، فقط.
وهذا ما دعا بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة إلى أن يصرخ، بأعلى صوت: "تهرب السلطة الحقيقية للدول، بشكل واسع، من سيطرة الدول، ما دامت الشمولية (Globalisation) تتضمن حقاً ظهور سلطات جديدة وهي أرفع شأناً من بنيان الدول".
من بين هذه السلطات الجديدة، تبرز وسائل الإعلام الجماهيرية التي ظهرت كإحدى القوى العظمى والأكثر إرعاباً وتشن التوسعات، في المواجهات الشديدة، على النطاق العالمي، معارك هوميرية –نسبة إلى الشاعر هوميروس –تقوم بها الصناعات الضخمة، من أجل التعهدات، وتؤدي إلى حروب قاتلة، من أجل السيطرة على المصادر المتنوعة، في وسائل الإعلام، وفي الطرق السريعة للمعلوماتية، التي تمثل عند الولايات المتحدة الأمريكية، اليوم، ما كانت تمثله، البنية التحتية للنقل بالطرق، في أواسط القرن العشرين، حينما يقوله النائب السابق لرئيس الجمهورية الأمريكية ألبرت أل غور (Albert Gore).
فللمرة الأولى في تاريخ العالم، تستخدم رسائل "بصرية –سمعية
(Audiovisuel) (لنقل معلومات، برامج أغاني..) موجهة، دون انقطاع، عن طريق شبكات من الأقنية التلفازية، تبث بوساطة الأقمار الصناعية، على مجمل الكرة الأرضية. وثمة في ا لوقت الحاضر، قناتان تبثان على مستوى الكرة الأرضية –الـ (cnn) شبكة الأخبار بالكابل - Cable News Network- وقناة (MTV) تلفاز الموسيقا music Television. لكن ستصبح غداً بالعشرات أو المئات. مما تتسبب في تشويش الأخلاقيات والثقافات، والأفكار والحوارات، وإنها لتتطفل، على نحو غير ملائم، سواء على تصرفاتها، أم في نواياها.
وتقوم مجموعات أكثر قوة من الدول، بغزوات على الخيرات الأثمن للديموقراطيات ألا وهو الإعلام. فهل سيسير باتجاه فرض قوانينه على العالم كله؟ أو على العكس سيفتح عصراً جديداً في الحرية، بالنسبة إلى المواطن؟ وهل هناك ما يدهش أن يستمر تفاقم التفاوت، في مثل هذه الظروف، التي يزداد فيها الأغنياء غنى والفقراء فقراً؟. وكما تقدر جريدة (هيرالد تريبيون الدولية) (International Herald Tribune) في عددها الصادر بتاريخ (19) نيسان (1995): "إنه يسيطر الواحد في المئة من الأشخاص الأكثر ثراءً، على حوالي (40%) من الثروة الوطنية، في الولايات المتحدة، فقط أما في المملكة المتحدة فلعل التفاوت فيها هو الأكبر من أوروبا.
فلم يخضع (تد تارنر – Ted Tarner) صاحب شركة الـ (Cnn) (Cable News Network)، ولا (روبرت مرودخ) (Murdoch Rupert) صاحب شركة الأخبار المحدودة (news Corporation Limited)، ولا(بل غيتز) (Bill Gates)، صاحب شركة (ميكرو سوفت) (Microsoft)، ولاجفري فينيك Jeffrey Winik، صاحب شركة (الاستثمارات المخصصة (Fidelity Investment)، ولا (لاري رونغ) (Lary Rong) صاحب (مجموعة الاستثمارات الدولية العينية) china trust And international investmeat)، ولا (روبرت آلن) (Robert alen) صاحب شركة (ATT) وعشرات السادة الجدد الآخرون في العالم، لم يخضعوا مطلقاً مشروعاتهم للتصويت أو الاقتراع الشامل. فالديموقراطيات بالنسبة إلى هؤلاء، هي فوق هذه النقاشات العالمية، أو المفاهيم الدولية، كما هي الحال بالنسبة إلى الخبرات العمومية في العالم. إن لكل من السيادة الاجتماعية، والحرية، والمساواة، معنى.
أما هؤلاء السادة، فليس لديهم الأوقات الزائدة ليخسروها، ويجتاز عملاؤهم، وإنتاجهم، وأفكارهم، حدود الأسواق الدولية، دون عوائق.
والسلطة السياسية، ليست سوى الثالثة، في نظرهم. هناك أولاً، السلطة الاقتصادية، ثم السلطة الوسيطة.
وعندما نمتلك هاتين السلطتين، كما يملكها برلسكوني (Berlusconi) في إيطاليا نكون قد أقمنا الدليل على ذلك.
- فالاستيلاء على السلطة، ليس إلاّ إجراءً شكلياً، ولهذا يسعى كثير من المواطنين وراء البحث عن المفاهيم والقيم. مرة أخرى أيضاً، يشعر كل واحد، بضرورة تحديد مشروع جماعي، بقصد أو بهدف وضع تصميم كبير لضبط هذه المشروعات أو المؤسسات. وإلا كيف يمكن تثبيت النظام والقانون، في عالم يتفجر في جميع أطرافه حيث تنتشر الحروب ا لأهلية، والحروب العنصرية والعرقية، والحروب الدينية باستمرار؟ وبأية أدوات ثقافية يمكن فهمها؟، وبأية عقلية، وبأي منطق، يمكن أن تتجاوز النزاعات الجارية؟
مرة أخرى، أيضاً، هذا عالم، يعلن عن نفسه من جديد.. لكن، يعتبر كثير من المواطنين في العالم، المنطوي على ملايين العاطلين عن العمل، يعتبرون، أننا دخلنا في عالم. أصبح فيه المأساة التراجيدية، والتقهقر متوقعاً. لم يبق القادة السياسيون هم المسيطرون مطلقاً على المشاكل في هذا العالم المتفجر، نتيجة الظلم والقهر، ويبدو أن الطاقة العجيبة للثورة، في طريقها إلى الانفلات، كما أمكن مشاهدة بداياتها في السنوات الأخيرة.
فقد بدأ مواطنون، من الديموقراطيات الحالية، يشعرون، في الواقع، بأنفسهم، أنهم أحرار، لكنهم دُبِّقوا بمواد لزجة وَغُمّسوا بنوع من الدبق العقائدي، الذي يغلف كل تبرير أو تعليل للتمرد بشكل معقول، هناك الكبت، والقلق، والشلل، وانتهاء "إلى الغضب" هذه العقيدة، هي (الفكرة الوحيدة) التي يسمح بها شرطي الرأي، غير المرئي، والموجود في كل مكان.
لقد بلغت الغطرسة والتعالي، والعجرفة والوقاحة، لهذه العقيدة، درجة كبيرة، منذ سقوط جدار برلين، وانهيار الأنظمة الشيوعية، وتثبيط المعنويات لدى الاشتراكيين، ويمكن، دون مبالغة، وصف هذا الرعب الإيديولوجي الجديد، بأنه عقيدة حديثة.
إذن، ما هو الفكر الوحيد؟ إنه التفسير الإيديولوجي، كالإدعاء الشمولي بالمصالح لمجموع القوى الاقتصادية وهي تشكل بشكل خاص، رأس المال الدولي، من أجل القول أيضاً بأنه شكل محدد منذ عام (1944)، بمناسبة اتفاقيات بروثون- وودز. ومصادرها الرئيسة، هي المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى- البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE)، والمنظمة الدولية للتجارة، واللجنة الأوربية، والبوندستانغ... الخ –والتي جندت العديد من مراكز الأبحاث والجامعات والمؤسسات التي بدورها تؤكد وتشيع الكلمة الحلوة، وعن طريق تمويلها، لخدمة أفكارها، عبر العالم كله.
وتعاد من جديد، كما تنتج بطرق أخرى، من قبل تنظيمات معلومات اقتصادية رئيسة، خصوصاً عن طريق كتابها (المقدس) الخاص بالمستثمرين، وأصحاب أسواق المال، وتنشر أفكارها وعقائدها، في:
(The Wall street Journal)& (The Finantial Times) & (The condmist,The Economic far Eastern Economic Revie w)
وكالة رويتر... وهي الجهات المالكة غالباً لمجموعات صناعية أو مالية في كل مكان من العالم، لحد ما وثمة معاهد علمية، ويوظفون صحافيين لطرح أفكارهم والدفاع عنها، وكتاب مقالات أدبية وفلسفية، ورجال سياسة، وأخيراً، فإنهم يتسلمون القيادات الرئيسة، على رأس هذه الطاولات للقانون، وعن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية الكبرى، لتعيد الشبع بالكلام إلى الجوعى والمحرومين، ويراد "بالتكرار" الإثبات، في مجتمعاتنا من الوسط، التي تعلم وتفسر الأحداث بجدارة، وتعتمد على عدة مبادئ، منها:
المبدأ الأساس، للفكر الوحيد، والقائل: "إن الاقتصاد هو الذي ينتصر على السياسة، وهو مبدأ لن يُنْفى أبداً، مطلقاً، بحسب ماركس.
أما آلان مينك (ALAIN MINC)، فيصوغه بالطريقة التالية "الرأسمالية- لا يمكن أن تسقط، لأنها الحالة الطبيعية للمجتمع، وليست الديموقراطية، هي الحالة الطبيعية للمجتمع، أما السوق فنعم". وذلك باسم (الواقعية) و (الذرائعية) – ويضع منيك الاقتصاد في موقع أو مركز القيادة، ويتخلص الاقتصاد من العوائق الاجتماعية، بنوع من الكسب المؤثر. وسيكون نقل التأثير هو سبب تراجع الأزمات.
كما أن المفاهيم الأخرى للفكر الوحيد، معروفة: السوق، حيث "اليد الخفية، تُصْلح الخشونة، وَعُسْر سير عمل الرأسمالية، وكل الأسواق المالية، بصورة خاصة، توجه العلاقات وتحدد الحركة العامة للاقتصاد". ويقود التنافس والمزاحمة إلى أن تثيرها وتؤدي بها إلى دينامية في المشروعات والشركات ويقودها هذا إلى تحديثات دائمة ومناسبة". والتبادل الحر، لا شواطئ لـه فهو يرسو في كل مكان، ويصبح "عامل تنمية لا تنقطع، في التجارة، وفي المجتمع" ويعود إلى العولمة، وإلى إنتاج المواد المصنعة، وتدفقات الأموال، والتقسيم الدولي للعمل ويؤدي إلى "تعديل مطالب نقابات العمال، وتخفيض تكاليف أصحاب المعاشات"، ومن قيمة النقد القوي، "عامل الاستقرار"، وعدم التنظيم، والخصخصة والتحرر... الخ. وعلى الدوام بالتحكيم المستمر لصالح الدخل لرأس المال، على حساب العمل وبالوعْد بالاهتمام تجاه تكاليف البيئة.
إن إعادة القول، أو تكراره باستمرار، وفي جميع وسائل الإعلام، عن هذه العقيدة، ومن قبل جميع رجال السياسة تقريباً، من اليمين ومن اليسار، تضفي عليها مثل هذه القوة تحميها من التهديد أو التخويف، الذي يخنق كل محاولة تفكير حر، ويجعل من الصعب جداً مقاومة هذه الظلامية الجديدة.
وسيتم الوصول إلى اعتبار أن العشرين مليوناً تقريباً، عاطلون عن العمل، في أوربا وحدها وإلى الكارثة الحضرية، وعدم الاستقرار بشكل عام، وجعل الأمور قطعية، والضواحي تأكلها النيران، والدمار البيئي، وعودة النزعة العنصرية، في مد وجزر، مع المستبعدين، والأوهام المسيطرة، من هلوسات مذنبة، نشاز، أو عدم مطابقة على نحو قوي، في أفضل العوالم التي تعيش فيها، من أجل شعورنا واحساساتنا المخدرة بالفكر الوحيد.
والسبب في ذلك، لأنها، مجردة من الإحساس، إنها النماذج الجديدة، للنظام الكوني، الدائم والمباشر والمجرد، الذي يبني طريقة التفكير الحقيقية، في بداية القرن الحادي والعشرين. مثل الأيديولوجية، المهيمنة، مثل سائل، يترسب في كل مكان، ويفرض نفسه كشيء طبيعي، وسيعاد بصورة حلقة أو سلسلة، عن طريق وسائل الإعلام الكبرى "النخبة"، من تلك التي تؤثر في الرأي العام، ومن هذا الفكر الوحيد.
ترى هل هي الصدمة نتيجة النماذج الجديدة، مما يدعو للاعتقاد بهذا التناقض، وإلى أي مدى، مع مرافقته بحقبة من الغليان ومن الأزمات، وبالتالي ما يعقب ذلك من أخطار من جميع الأنواع، والمتطابقة أيديولوجياً، التي تفرض من قبل وسائل الإعلام وعن طريق الشعارات، يهدف السيطرة على العقول؟
لحسن الحظ الكبير، هنا وهناك، في الشمال، كما في الجنوب، لا يتردد بعض من المثقفين، والعلماء، والمبدعين، في تقديم الشكاوى، من التوافق الخانق والالتزام بالمعركة الفكرية. فهم يقاومونها بصورة مستمرة، ويتمردون عليها. وهم يعرضون حججاً أخرى، وفرضيات أخرى، للتخلص من سيطرة تلك الأشباح، والمساعدة، على تحول العالم. فهم يساعدوننا أيضاً لكي نفهم، على نحو أفضل، معنى زماننا. ويعبرون عن رفضهم لطراز المجتمع القائم على النزعات الاقتصادية، والنزعة الليبرالية المتكاملة، وشمولية الأسواق، واستبداد العولمة، ومع كل ذلك، يُذَكِّرون، القادة السياسيين، بمبدأ جمهوري عتيق، وهو: "يفضل المواطنون الفوضى على الظلم".
وبمقدار ما يسبب هذا الاحتجاج الجديد، من أزمة للسلطة، يصيب أيضاً الديموقراطية والنخبات. فالسلطة التي تبدو كأنها المنقذ الأكثر، والمتمتم الإضافي –والتابع للسادة الحقيقيين من العالم: ألا وهم أصحاب الأسواق المالية. إنها ديموقراطية ملغومة، من بين أمور أخرى، بسبب وقاحة الحكام، الذين ما أن يتم انتخابهم، حتى يسرعوا لمحو وعودهم، ونفي كل ما أقسموا على تنفيذه، إنها لصورة تستحق المشاهدة، وتتسارع النخبات لتقديم الثناء "للفكر الوحيد"، منذ سنوات، وتمارس ابتزاز كل تفكير نقدي، باسم (التحديث) و (الواقعية) و (المسؤولية) و(الفعل). ويؤكد خاصة لا مفر منها: إطراء التطورات الجارية، الاستسلام الفكري، وتضع في الظلام، المضاد للصواب جميع هؤلاء الذين يرفضون قبول ما يسمونه (الحالة الطبيعية) للمجتمع (في السوق).
وبهذا الصدد، يمكن للاحتجاجات التي تتصاعد في كل مكان بين المجتمعات الأوربية، أن تضع حداً لإحدى الفترات الأكثر رجعية في التاريخ المعاصر، حقبة شهدت حكاماً ومثقفين واجتماعيين- ديموقراطيين، خلال الفترة (1983-1993) وهم يتخلون عن كل أمل في تحويل العالم نحو السلام، ويقترحون طرحاً منهكاً من الإصلاحات العزيزة على قلوب الليبراليين، عوضاً عن مستقبل متألق. أو بعبارة أخرى القيام بعملية تكيف، وذلك بالامتناع عن التخلي، والخضوع، حتى عن الحقبة الأكثر سواداً في الجحود الاقتصادي، ذلك الذي حدث عام (1929) على الرغم من أنه لم يكن هناك أرقام مرتفعة، في الخِلَق "أي السلع التي لم تبع"، فإذا أضفنا إلى ذلك العشرين مليوناً من العاطلين عن العمل، أو الذين لا عمل لهم أصلاً، والمستفيدين من كل أنواع الرفاه، فهذا يشكل أرقاماً كبيرة عندئذ من الأشخاص المُفْقرين، وهم غالباً يسكنون الضواحي، وإذن فالخشية الكبرى أن يصبح هؤلاء مهمشين، بشكل حاسم ومن بين هؤلاء، حوالي عشرة ملايين، يعيشون دون عتبة الفقر المدقع، بأقل من سبعة دولارات في اليوم الواحد، فالبؤس هو الشتيمة الكبرى، بالنسبة لحقوق الإنسان، وتحدث في ظروف يشوبها التمزق أو التصدع، في النسيج الاجتماعي بعض المفاهيم الخاصة بالجمهورية.
وإن العاطلين عن العمل، وأولئك الذين لا مأوى لهم، والذين يقومون بأعمال مؤقتة، والمبعدين، هم جميعاً التعبير المأساوي للتضحيات المعلنة، دون رأي معاكس في المجتمع الأوربي منذ عقدين من الزمن. كذلك التفسير الاجتماعي، للخيار الأيديولوجي الخالص، القائم على الشدة في الميزانية، وعلى العملة القوية، وخفض العُجوز العامة، وعدم الاستقرار، والنزعة التنافسية، والإنتاجية.... الخ.
من هنا، لا يريد الناس بعد الآن، كل ذلك، ولا يقبلون سوى ما يسمى بإصلاح، ما ليس، بالمعنى الدقيق، سوى، معاكس للإصلاح، عودة للنظام الاجتماعي القديم، في عالم كريه كما وصفه تشارلز دكنز. وكذلك إميل زولا.
ويبقى ملايين المواطنين يجابهون الفضائح في المجتمعات الميسورة، التي ترتضي أن تسرح وتمرح باسم النزعة الاقتصادية، وتفرغ جيوب البؤساء كل يوم، بصورة أكبر أهمية. فكيف لا نفهم الأحقاد بين هؤلاء، الذين يشعرون بأنفسهم، أنهم أصبحوا مهددين في حياتهم وحياة عائلاتهم، بهذه الفظاظة، وعن طريق تطبيق أعمى لمعايير تقارب محددة حسبما جاءت في معاهد ما ستريخ.؟
إن بناء أوربا، هو هدف أساس في الوقت الحاضر، يتسكع على حدوده، وحتى في أحضانه الخاصة، نزعات قومية متطرفة، لكن، ليس هنالك من جواب على تحَدٍّ نبيل جداً، ليس فيه نسب مكاسب أو معايير تقارب.
فالبلاد التي تفرض هذه المعايير في الأمور الاجتماعية هي القادرة وحدها، على استعادة الثقة والأمل من جديد، وتخليص المجتمعات من الشوائب المادية التي تعرض العالم لخطر إدانتها. لقد اخترعت أوربا دولة العناية الإلهية، كما لو لم تكن في أي مكان من العالم، ويستفيد المواطنون وبلدان الاتحاد الأوربي، من نظام عتيق من التأمين ضد المرض، ومن التعويض العائلي، ومن تعويض البطالة، كذلك من بعض فوائد قانون العمل. ولقد تم اكتساب هذا الحصن من الضمانات الاجتماعية- الاقتصادية عن طريق الحركة العمالية، التي شكلت قلب الحضارة الأوربية الحديثة... وهذا ما شكل التمييز الواضح، في العمق، للاتحاد الأوروبي، عن غيره من مجالات أخرى جيوسياسية، خصوصاً هذه المنافسة في المجالات الاقتصادية الأمريكية واليابانية.
يدفع منطق العولمة، والتبادل الحر، على مستوى العالم، إلى أن تتساوى الرواتب والأجور والحماية الاجتماعية ليكون الميسورون على صف واحد، مع أولئك، الذين هم في حالة أدنى بكثير، في بلدان منافسة، من آسيا- المحيط الهادي. فهل تستطيع الحكومات الأوربية متابعة تحطيم الصرح الاجتماعي، باسم الفعالية الاقتصادية، والتعرض لخطر تحطيم التلاحم الاجتماعي؟
إن الاهتمام الزائد، الذي تابعه جميع أصحاب المعاشات والأجور، عند الإعلان عن إغلاق معمل رينو (RENAULT) في فيلفورد (Vilvoorde) بلجيكا، بتاريخ شباط (1997)، أدى إلى فسح المجال، وللمرة الأولى، أمام (إضراب أوربي)، وأظهر، إلى أية درجة، أصبح الهمُّ والغَمُّ مقتسمين. ففي كل مكان، تترافق الإجراءات الظالمة، وبطريقة غير متساوية، والردود السريعة، بالعبارات نفسها، وبوتيرة متماثلة، تحت ضغط الأسواق المالية، في كل مكان، يتساءل المواطنون، عن الفائدة من بناء أوربا على أنقاض الدولة الإلهية، وعلى التراجع الاجتماعي والاستخدام القادر، وصعوبة الحصول على المال، وانخفاض الرواتب، ويصرخون: أين التقدم في كل ذلك؟
موسى الزعبي
التسميات
عولمة