لقد أكد البروفيسور الأمريكي، صامويل هانتنغتون (HUNTINGTON SAMUEL)، في مقالٍ داوٍ، نشر عام (1993)، قائلاً: "إن فرضيتي، هي أن النزاعات لن تصبح ذات أصول أيديولوجية أو اقتصادية بالضرورة، في العالم المعاصر، وستصبح الأسباب الكبرى في تقسيم الإنسانية، ومصادر النزاع، ثقافية. وستستمر الدول /الأمم بلعب الدور الأول في الشؤون الدولية. وترجع النزاعات السياسية الدولية الرئيسة، التي تقوم بها أمم أو مجموعات، إلى حضارات مختلفة. وسيسيطر صراع الحضارات، على السياسة الدولية.
وستصبح الخطوط الفاصلة بين الحضارات، خطوط جبهة في المستقبل". كل ذلك من أجل أن يوضح، في أي عالم قد دخلنا بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي، ونهاية الحرب الباردة".
وأضاف هانتنغتون قائلاً: سيأخذ الإحساس بالانتماء إلى حضارة ما، أهمية أكثر فأكثر، في المستقبل.
وسيصبح العالم، مشكلاً على نطاق واسع، عن طريق التفاعل بين سبع حضارات رئيسة أو ثمان هي الحضارة الغربية، والكونفو شيوسية، اليابانية الإسلامية، والسلافية –الأرثوذوكسية، واللاتينية –الأمريكية، وربما الحضارة الأفريقية. وستكون النزاعات الأكثر أهمية في المستقبل على طول خطوط الفصل الثقافي التي تفصل هذه الحضارات بعضها عن بعض"
وستسير هذه الفرضية باتجاه إثارة جدالات عالمية هائلة، وحادة، كالتي أثارها الباحث فرانيس فوكوياما (Francis fukuyama)، مع فكرته المشهورة عن "نهاية التاريخ".
وبالإجمال، فإن التنفيذات، أو أفكار الدحض، تتغلب عليها، فالعديد من المؤلفين يؤكدون أن معظم النزاعات الحديثة "في الكونغو، وفي رواندا، وفي ليبريا، وفي البوسنة، وفي الشيشان، وفي الشرق الأوسط، وفي الجزائر، وفي جنوب السودان، وفي كشمير، وفي سير الانكا، وفي شيايا س "لها أهمية البعد الثقافي. وينكرون على صامويل هانتنغتون تبسيطاته السياسية، والتحديد القاطع للحدود الحضارية، خصوصاً مناداته، أو دعواته للانتفاضة في الغرب، من أجل مقاومة الهجوم المزعوم الذي يمكن أن يشن من الإسلام أو من الكونفوشيوسية.
لقد شجعت هذه الفرضيات، على كره الأجانب، بطريقة لا تقبل الجدل، خصوصاً ما يظهر من ذلك في الولايات المتحدة وفي العديد من البلدان الأوربية. وقد اعتمدت الفكرة على أن الإسلام، أصبح اليوم "العدو الشامل" والجديد للغرب بشكل خاص وبرهانه على ذلك، عندما أشارت وسائل الإعلام الأمريكية، بل أيضاً الأوربية بعد الاعتداء المقيت في أوكلاهوما، بتاريخ (19) نيسان عام (1995) أشارت، وعلى الفور إلى (وثائق إسلامية) كـ "المُؤَلِّف أو الكاتب الأكثر احتمالاً" عن العمل الشائن. قبل أن يكتشف أن هؤلاء المسوخ الوحوش الذين نفذوا ذلك ينتسبون إلى اليمين المتطرف الأمريكي من العرق الأبيض والمسيحي...
ويمكن أن يعاب على هانتنغتون الحديث عن "الحدود الدامية للإسلام" في أي وقت يذكرون فيه "الحدود الدامية المسيحية" أرثوذوكس وكاثوليك في البلقان "الحدود الدامية الهندوسية"، في كشمير، وفي سير الانكا، أو "الحدود الدامية بسبب مصالح الدول الأوربية أو الأمريكية الكبرى" في خطوط الحد بين الشمال والجنوب.
فهل يمكن تقسيم العالم المعاصر وتاريخه المتلاحم بين بعض الحضارات الكبرى، إلى محيطاتها القابلة للتحديد تماماً؟
أليست المفاهيم الشمولية، قائمة على فرضية البواعث أو الأسباب الصرفة"، والرمزية، والخداعة بشكل واسع؟ وهل يمكن تجاهل التفسيرات الثقافية؟
وهل يمكن تجاهل تأثيرات الخلط في التهجين، وفي نهاية الأمر، التحديث الذي أحدثه الاستعمار؟
فليس هناك مساكنة مع سدود محكمة بين الحدود الإنسانية والثقافية، والتاريخ الإنساني، هو وصف التبادلات بين الكائنات الإنسانية في جميع الاتجاهات.
والإسلام، هو المعجون من المصادر القديمة، اليهودية والمسيحية. ويوجد في الهند، معابد مسلمة، يتردد عليها الهندوس، بشكل خاص. وفي أفريقيا العربية، مقابر لليهود مقدسة، تستقبل الغالبية من الحجاج المسلمين.
وتتزايد هذه التراكبات وتتضخم في أيامنا، بسبب التوسع العمراني، حسب الطراز الحضري الغربي، ومن الاختيار العمومي أو الشمولي للتنظيم البنيوي للدولة، خصوصاً، قوة الإعلام الجماهيرية المدهشة، التي تنشر بطرق متطابقة في التصرف، وفي الاستهلاك، وفي اللهو، والتي تَشيع التَخَيُّل نفسه الذي يُدْعى بالثقافة العالمية (World cultore).
ويزعم البعض، بأنه لا يوجد سوى (حضارة وحيدة)، هي "الحضارة الرأسمالية"، وذلك من أجل مواجهة فرضيات هانتنغتون، وبأن النزاعات القادمة، ستكون على هذا النحو حروباً أهلية من نوع جديد. ولن تكون هناك حروب بين الأمم. ولا حروب بين الحضارات، حتى في نطاق الحضارة الشاملة، وإذا استمرت التفاوتات بالتزايد، فإننا سنشهد مجابهات، أشد عنفاً، فأشد، بين المستبعدين والمطرودين والمحرومين وبين الذين يضمهم الرفاه، أي بين المهمشين و(السادة الجدد) للعالم.
ما من أحد يمكنه أن يحس بالأمن أكثر في نطاق هوية متلاحمة، بعيداً عن الأشكال الثقافية المتنوعة، والجديدة. ويمكن لهذا الوجود المشترك أن يتكشف أحياناً، عن كونه شاقاً. ويبقى ضرورياً ومغنياً. ولن يكون سوى لإبعاد محاولات التطهير العرقي المشؤوم ثقافياً أم دينياً.
وكانت هذه الاستنتاجات، أصل الحروب في يوغوسلافيا السابقة عام
(1991 إلى عام 1996). وهناك من كانوا يشكون بها، على الرغم من أنها كانت تحت عيونهم المفتوحة خلال أربع سنوات، كنموذج. وهناك مثال آخر، اتبعته البربرية المعاصرة، في وسط الحضارة الحديثة، إذ كانت في وسط أوربا. فكانت رمزاً للاإنسانية، والفظاظة، والشراسة، تلك المعارك التي تجابه بها الصربيون والكروات، والبوسنيون، وَرَوَّع بعضهم بعضاً، وثار بعضهم على بعض. فلماذا هذه الحروب القذرة؟ هذه الحروب المتعلقة بالهوية؟ وبالماضي؟ مع أن لدى هذه الشعوب الثلاثة، الكثير من الصفات المشتركة –فهم جميعاً، سلافيون –ويتحدثون اللغة نفسها –وخاضوا الكفاح المشترك ضد أعدائهم الخارجيين، خلال قرون ليشكلوا الأمة نفسها، أولئك هم السلاف الجنوبيون، يوغوسلافيا، تعني: "بلاد سلاف الجنوب". فكان الثلثان من هؤلاء، أهدافاً للإمبراطورية النمساوية المجرية قبل عام (1918). والآخرون، بقوا مع الإدارة المجرية، وهم من الكرواتيين؛ وبعض السلوفينيين، رفضوا الإدارة النمساوية. فاليوغوسلاف المستعلون، "من بينهم العديد من المسلمين"، تتقاسمهم مملكة مومنتنفرد ومملكة السلوفينيين، والكرواتيين الكاثوليك، ويستخدمون الحروف اللاتينية. الصربيون، أرثوذوكس، ويكتبون بالأحرف السيريلية (Cyrilliqucs)، أخيراً، الآخرون، وهم من المسلمين، يكبتون بالحروف السيريلية، بصورة رئيسة، ولم يُكوِّنوا قومية مستقلة، في يوم من الأيام، بالكامل، إلا في عهد الرئيس تيتو، كأمة "إسلامية" أو "مسلمين".
فهذه القوى، كانت ترغب بالاتحاد، على الرغم من بعض اختلافاتها، لأن ثلاثة أرباع هذه الشعوب يتحدثون اللغة الوحيدة نفسها –الصربية –الكرواتية، منذ زمن بعيد.
لهذه الأسباب، تنطلق الحماسة لإنشاء دولة قومية بتاريخ الأول من كانون الأول عام (1918)، للوحدة اليوغوسلافية، والإعلان عن مملكة الصربيين –الكرواتيين –السلافيين، بعد المجابهات مع الإمبراطورية النمساوية –المجرية عام 1981.
فهل تكفي التمجيدات أو التحميسات للأصول، والهوية، والأساطير التاريخية، وتقاسم القيم المشتركة والمتشابهة، من أجل خلق الأمة؟ ومن أجل خلق الإحساس أو الشعور لدى المواطن، بأنه ينتمي إلى جزء مشترك؟ لقد كانت هنالك بالطبع، خلافات صغيرة عديدة، في المساعي نحو الوحدة، والتي شكلت لحد ما، خميرة الخصومات التي وجب أن تسمم الحياة في تلك الدولة اليوغوسلافية، بصورة مأساوية، وتم الحصول عليها، مهددة بالانفجار. وفي حين أن النزعة القومية قد رسخت البلاد، فإن النزعة القومية، قد فككتها أيضاً.
تاريخياً، ظهرت النزعة القومية المعاصرة، في القرن التاسع عشر، في ألمانيا، من أجل مقاومة المشروع الشمولي، للثورة الفرنسية. وضد توقعات عالم موحد ومحدد بأفكار، منتزعة من النزعة العقلانية أو المنهجية، وقد قاوم أصحاب النزعات القومية، النزعات الإقليمية أو الذاتية المقدسة: "الأرض، اللغة، الدين، الدم".
وتنبثق النزعة القومية ثانية مع اندفاع أو هيجان، في كل مرة يوجب التهديد، بالوهم، لدى مجتمع شمولي ومتكامل. أوهام السوق، بلا حدود، وشمولية الاقتصاد تفرض، المعايير الإنتاجية نفسها، وطراز الحياة نفسه، في كل مكان.
وهل أن هذه النزعة القومية لم تشكل الوقاية ضد هذه الأوهام؟
فهل لم تشكل النزعة القومية نفسها، ارتداداً وهمياً؟ وهل تلغى جميع التوترات، لدى جماعة، لأنها تتحدث اللغة نفسها، ويتم القضاء على جميع النزاعات في أحضانها، بطريقة سحرية؟
كان الرئيس الكرواتي، هو الأول، الذي أطلق فكرة تقسيم البوسنة –الهرسك "التي يسكنها (40%) من المسلمين" من أجل توسيع مناطق جمهوريته، باتجاه المناطق التي يقطنها الكرواتيون. وعلى الأثر، قام الرئيس البوسني بالرد على ذلك، بالقيام بزيارات لكل من تركيا، وإيران وليبيا، من أجل البحث عن (دعم سياسي).
النتيجة: أصبحت ساراييفو تحت القنابل، بدءاً من (6) نيسان عام
(1992)، ثم استمرت أربع سنوات من الدمار ومن المعاناة، ومن الموت.. هذه المدينة، التي تعايش فيها ثلاث جماعات –كرواتية، مسلمة، صربية –خلال مئات السنين، وبتناغم، أصبحت بعد ذلك رمزاً للتعصب وجنون العنصرية.
لقد جرى نسيان دروس الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ (Nuremberg)، وإدانات الجرائم ضد الإنسانية وحروب الغزو التي جرت باسم النظريات العنصرية.
لقد خضعت الجماعة الدولية، في آخر الأمر، عن طريق سلسلة من الاتفاقيات في دايتون (Dayton)، التي تحافظ على الشكل، وتقطع في العمق "في تقسيم عرقي"، للبوسنة والهرسك وهذا ما سمح بتراجع للروح والعقل السياسي، وأقام مهالك سابقة، فمن سيكون مثاراً ببراميل البارود الأخرى؟
في أوروبا هي بلا شك! كوسوفو، ألبانيا، رومانيا، ملودفيا، ترانسدنيستري (TRANSDENESTRIE)، سلوفاكيا، ملدوفيا، فويْفودين (VOIVODINE)، الكريمة، ثم بلدان البلطيق، والقوقاز..... حيث يمكن للتفجر أن يتسبب في إحراج القارة القديمة، ويزعزع استقرارها.
إننا نعيش اليوم عجز هؤلاء الذين شجعوا على التفكيك المتعجل للاتحاد اليوغوسلافي. وذلك بالاعتراف باستقلال سلوفينيا وكرواتيا، اعتباراً من تاريخ (23) كانون الأول عام (1991). وتحركت العاصمة الألمانية "بون" والفاتيكان، والاتحاد الأوربي، وبعجلة مأساوية عندما قدرت هذه الجهات أن المشكلة، هي مشكلة أقليات وحدود داخلية. وقد شجع هذا، صعود قوى ذات نزعات متطرفة قوية، في كل مكان، وكل منها تحلم بدولة "متجانسة عرقياً".
وما من أحد يتجاهل العداء المتوحش بين الأقلية الصربية الهامة في البوسنة "33% من السكان" لإنشاء دولة مستقلة، وبين المسلمين "42%) من السكان"، بزعامة علي عزت بيغوفيتش، مؤلف كتاب على شكل مانغستو، يحمل العنوان: "من أجل دولة إسلامية".. لقد أصبح كل شيء واضحاً منذ الانتخابات الحرة التي جرت في عام 1990 في البوسنة، وقد كُنِيَتْ التشكيلات المعتدلة العلمانية ومتعددة الأعراق وكشفت هذه الانتخابات عن قوة الأحزاب ذات النزعات القومية المتطرفة في نطاق ثلاث جماعات رئيسة.
لقد فسح النزاع في يوغوسلافيا القديمة، المجال لمثل هذه المظالم وإلى مثل هذه الفظائع، حيث كان عدم التدخل جريمة سياسية، كما كان عليه الأمر في سنوات (1936 –1939)، خلال حقبة الحرب في إسبانيا، عندما كانت مدريد محاصرة وطالبت بمساعدة البلدان الديموقراطية، لإنقاذ الجمهورية التي اعْتُدِي عليها من قبل الفاشية: وقد أخفقت قوات الأمم المتحدة بمهمتها الإنسانية، وأصبح التدخل الأمريكي عام (1995) موجهاً بالرغبة في الحل السياسي. ذلك هو ما حدث، عندما تقسمت يوغوسلافيا، إلى دويلات متصارعة.
لقد سمح العجز الأوربي المحزن في مواجهة المأساة اليوغوسلافية بإجراء ناتج ليس فقط عن تقزمها –سياسياً؛ بل أيضاً عن تناقضاتها المسببة لشللها. وكانت هناك خشية في فرنسا "التي كانت من بين الأوائل، الذين اعترفوا بـ "النزعة إلى الاستقلال في كرواتيا، ورؤية ألمانيا، وهي توسع نطاق نفوذها". وسيطر خوف في المملكة المتحدة، وفي بلجيكا، وفي إيطاليا، وفي إسبانيا، من تشجيع النزعات الانفصالية، وبتأثير ارتدادها عليها، مما قد يؤدي إلى تفكك وحدتها الوطنية، وخشية أيضاً، في الوقت الحاضر، حيث تبنى ويُعَزّز بناؤها كاتحاد أوربي من بلقنة شاملة للقارة القديمة. لأن يوغوسلافيا، لم تكن سوى نوع من مخبر دراماتيكي، حيث يمكن قياس الأخطار التي يمكن أن تسببها نهاية الحرب الباردة.
في الواقع، لقد استمد المواطنون في البلدان الشرقية من أوربا، والاتحاد السوفياتي السابق رغبتهم بالديموقراطية وطموحاتهم القومية، من أجل مقاومة النظام الشيوعي وعدم فعاليته الاقتصادية، وسقطت هذه الأنظمة، لكن بقي النقص في الحاجات هنا وهناك "ألبانيا رومانيا، صربيا، بلغاريا، روسيا" وحتى بالنسبة للعدد الأكبر فإنه بقي يتفاقم. فهل أن هجر النظام الاستبدادي، يصبح لـه معنى، إذا أصبح العيش في حال أسوأ؟
لقد ضمن النظام القديم، للجميع أمناً معيناً مادياً، بالتأكيد، مع ممارسات تخالف العقل والصواب، وخنق للحريات.
لكن بدا النظام الديموقراطي الجديد، كطعم أو فخ، شرير وكعقبة فهناك الضيق العام الموجود أيضاً في النزعة القومية وفي التحميس المشبوب بـ "الفضائل المتعلقة بالهوية" وهو طريقة سهلة لإحداث الذهول والهيجان. ويوجد في "الآخر" الأجنبي، الدخيل، المهاجر –والجميع معنيون بذلك.
إن تلبية الحاجات لهذه المجتمعات، هي التي يمكنها تهدئة اللعبة.
لكن هذه الحاجات هائلة وضخمة. فتحت اسم المقارنة يأتي اقتصاد ألمانيا واحداً من أقوى النظم الاقتصادية في العالم.
على الرغم من المصاعب الاقتصادية لهذا العالم. مع ذلك فقد أنفق شركاؤها الأوروبيون، مبلغاً خيالياً، وصل إلى (1000) مليار دولار لمساعدة ألمانيا الديموقراطية السابقة ومواطنيها الـ (18) مليون شخص، خلال سبع سنوات.
هذا وهناك حوالي (400) مليون من الأشخاص في الشرق، ينتظرون المستوى نفسه من المساعدة..
وإلى الغرب، لم يجرؤ على الاعتراف –بعد الكثير من تبجحه في الإذاعات عن انتصاره على الشيوعية وهو ليس على استعداد لضمان النصر واستمراره ولو بإقامة حوالي عشر خطط مارشالية.. "فالسوق فعال، لكن ليس لـه عقل، ولا قلب"، هذا ما يعتقده البروفيسور بول صامويلسون (Paul samuelson) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
إن مثلَ قِصَر النظر السياسي هذا يمكن أن يقود إلى الأسوأ. إذ يعلمنا التاريخ، أنه عندما تترافق الأزمة الاقتصادية الخطيرة، مع الهيجانات والاضطرابات وقيام الثورات الوطنية فإن الشؤم الأسوأ هو الرعب. إنها روسيا، التي استولت عليها النزعات القومية، والمزايدات الشعبية، هذه هي روسيا الغد، التي استطاعت مواجهة الارتباك بدورها. فقد وجد بوريس يالتسين نفسه، على رأس متروبول استعماري قديم يشعل أو يؤجج كل واحد من قراراته. أو يعزز من النزعات القومية الواقعة على الحدود، كما هو الحال بالنسبة لموضوع الشيشان المأساوي، الذي أثبت ذلك في الفترة (1995 –1996)، وكما هي حال نزاعات القوقاز التي أظهرت ذلك في السابق، في الفترة (1991 –1995).
وتنبه نزاعات القوقاز، تلك التي أدمت يوغوسلافيا السابقة، بشكل قوي، سواء عن طريق التعصب الذي أثارته "النزاعات القومية المتعصبة، أو عن طريق النزعات الوحدوية والكره العنصري، وكذلك الحال المتعلق بأعمال العنف، وفظاظاتها "احتجاز الرهائن، مذابح المدنيين، الانتهاكات الجماعية".
فلأي أسباب مُعَمَّاة، يجري جذب الاهتمام لدى وسائل الإعلام الكبرى بصورة أقل؟ ولماذا قدَّست الانفعالات في وزارات العدل بشكل أقل؟ إن الإلحاحات الدولية نفسها –من قبل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة حلف شمالي الأطلسي، ومنظمة الوحدة الأوربية ومنظمة الأمن والتعاون الأوربي –بالكاد، تفَضَّلت وتنازلت لكي تهتم بمثل هذه الأمور –نظراً لعجزها.
فعلاً هناك أزمة، بل أزمات، أدّت إلى أربعة حروب حديثاً: في القوقاز، وقبلها النزاعات الأرفية –الآذرية، بشأن منطقة كاراياخ العليا، التي يسكنها الأرمن، لكنها ملحقة بأذربايجان، حيث تتجابه أو تتحارب الدولتان من أجلها. إنها نزاعات دون جدوى -حتى الوقت الحاضر –من أجل انفصال المنطقة وإلحاقها بيارفان عاصمة أرمينيا.
نزاع آخر، من الطبيعة ذاتها، هو التعارض بين جورجيا، والجمهورية الصغيرة المستقلة ذاتياً، وهي أوسيتي (ossetie) الجنوبية، التي يسكنها (100000) مواطن، وهي تتمنى أن تقطع علاقاتها مع تبليس، لتشكل بذاتها كياناً مع أوسيتي الشمالية. في نطاق الاتحاد الروسي.
أوسيتي الشمالية وجدت نفسها، في الوقت نفسه، في حرب، ضد الأقلية الأنغوشية، هذه الأقلية التي نُفِيَت في عهد ستالين عام (1945).
وهي تحاول منذ خمسينات القرن العشرين استعادة أرض أسلافها دون جدوى خصوصاً مدينة فلاد يكافكاز (vladikavkaz) التي أصبحت عاصمة أوسيتي.
الحرب الرابعة، هي تلك التي دارت رحاها في أفخازيا الجمهورية ذات الاستقلال الذاتي، وتقع إلى الغرب من جورجيا، على شواطئ البحر الأسود. أعلنت استقلالها الذاتي في تموز عام (1992) وتتجابه منذ ذلك الوقت مع هجمات الميليشيات الجورجية، على نحو انتصاري.
لقد فسحت هذه الحروب، في جميع المعسكرات، المجال، أمام رعب دون اسم. وإن (التطهير العرقي) المشؤوم، يتكرر، كذلك أعمال التعذيب بصورة مستمرة ومنهجية، حيث تجري مجازر شديدة. وكان المدنيون هم الضحايا الرئيسيون، هنا أيضاً.
ويعد القتلى بالآلاف، والمهجرون يتجاوزون الملايين، ويتكدسون في مدن، تنقصها التدفئة، والكهرباء، وحتى الطعام، بشكل مستمر...
وتعكس هذه النزاعات، الفوضى، التي تسود مرحلة نزع استعمار الإمبراطورية السوفياتية. فهل تسمح هذه البلدان الشاسعة لنفسها أن تضيع الوقت، بخصوصيات عتيقة؟
لقد طبقت المجموعات الاقتصادية التي تعاقبت على السلطة، حول بوريس يالتسين، "علاجات الصدمة" من أجل الإسراع في التحول نحو اقتصاد السوق، وتتبع هذه المجموعات إحداها الأخرى، بعقيدة منخورة. ويعتبر ذلك كتبرير بنيوي، يُطريه المبشرون بالحروب من الليبراليين المتطرفين. وقد زاد الثمن على نحو هائل وتضاعفت تكاليف (إزالة الشحوم) في المعامل بسبب زيادة العاملين فيها وفي ملاكاتها الإدارية، وتفاقم عدد الفقراء والمبعدين والعاطلين عن العمل، في بلد كانت الحياة اليومية فيه من قبل، جهنمية.
واجتمعت كل العناصر المقومة، من أجل أن تتضخم الفوضى في روسيا، وكان الغرب يخشى من القوة السوفياتية. لكنه اكتشف، بعد ذلك، أنه أصبح يخشى، مع فزع شديد، وعلى نحو أكثر، من انهيار ذلك البلد، أو من تهدمه. فهل يجب قبر الحريات في تابوت حجري، من جديد "باسم الضرورات أو المقتضيات الاقتصادية"؟
وتبدو المساعدة لروسيا، وأوروبا البلقانية، وبشكل جدي، أنها خارج الموضوع أو المشكلة، ما دام يتوسع عدم الرضاء أو الاستياء، لدى الطبقات المتوسطة، في الاتحاد الأوربي.
كذلك يتطور التطرف والعنصرية إلى الأقوى. ويشعر المواطنون الأوربيون بأنهم قد انزلقوا نحو عالم لا إنساني –في وضع عام –من خيبات الأمل وزوال الأوهام، وأنهم في قلب ديجورّ، تنطلق منه، قوى الظلام التي تهدد الديموقراطيات.
هنا، في أوربا، أزمة اجتماعية وأخلاقية، مسكونة بالرعب الاقتصادي، بحيث تبدو الطبقة السياسية كأنها فقدت الصلة مع الرأي العام، وأن الفوضى تسيطر على القلوب بسهولة، ويزداد الخوف المشروع من الغد المجهول، في الوقت الذي تزداد فيه البطالة بين الجماهير، وتشجع على تنامي كره الأجانب، وعلى العنصرية.
فقد تم التحقق من ذلك الأمر، في فرنسا، في شهر شباط عام (1997)، حيث لم تتردد الحكومة الفرنسية، وتحت ذريعة الكفاح ضد الهجرة، لم تتردد أن تقترح مشروع قانون ذي صيغة –تحمل في طياتها كره الأجانب. وهو مشروع حاربه قسم من المجتمع الفرنسي، وبشكل خاص، من قبل العديد من المبدعين ومن المثقفين.
لكن، ما من دولة في الاتحاد الأوربي، عرفت اندفاعة قوية من اليمين المتطرف –كما عرفت فرنسا، باستثناء ما حدث في النمسا، منذ خمسة عشر عاماً. وهي اندفاعة تَمَثَّلَت بما حققته الجبهة الوطنية، التي استطاعت أن تجد نفسها في موقع الحكم في بعض من الـ (200) دائرة. من الدوائر الانتخابية، في الانتخابات التشريعية، في شهر حزيران عام (1997).. فهذا الحزب، خاصة رئيسه، بصورة مطلقة، جان –ماري لوبن jean –maric le pen، قد أشار بطريقة ديماغوجية، إلى العمال المهاجرين، على أنهم السبب الرئيس للصعوبات الفرنسية ومع الحذر من لغة الحد الأدنى، فالعنصرية أصبحت قائمة ودون خشية، وتبيح بالكلام الصريح توجيه النقد اللاذع لحضور المغاربة، والأفارقة، بشكل خاص، حيث يقولون إنهم سيسمحون بطردهم رسمياً وبالجملة، بعد وصولهم للسلطة كما جاء في برامجهم الانتخابية..
لقد تناوبت أحزاب اليسار واليمين، في فرنسا، على السلطة التنفيذية، وفي باريس. وفشلت هذه الأحزاب في وقف صعود المتطرفين، وبرهن اليسار واليمين عن عجزهم أن يبرعا في المجال الاقتصادي، بشكل واضح. وتبين ارتباكهما، من ناحية الفكر الوحيد ووقوعهما بشرك العولمة، والنزعة الشمولية الليبرالية المتطرفة، وحيارى أمام وقوع كارثة اجتماعية تحرم الآن من استخدام حوالي (5) مليون من الأشخاص العاطلين عن العمل.. وهناك مجابهات تتعلق بالمواضيع المتعلقة بالمجتمع، وأخرى حول مواضيع الهجرة، إلى درجة أن أصبحت لعبة بين أيدي الفاشية الجديدة، ونفى الحزب الاشتراكي من جديد وعوده، ورفض حق التصويت بالنسبة للأجانب في الانتخابات التشريعية، تحت ذريعة الكفاح ضد العمل السري.
في حين عزز اليمين، التشريعات بهذا الخصوص، وبطريقة تعسفية، وتستهدف السيطرة على دخول وإقامة الأجانب وَيُطارد الأجانب، شيئاُ فشيئاً وبمزايدة وراء مزايدة، من اليمين المتطرف، وبوعي كامل تماماً، وفي جو فاشي بشكل مطلق. تنم مطاردة الأجانب، وأصبحت مطاردتهم من الأمور المسلم بها. وقد أدت فضائح قوانين ميهينيوري –باسكا (Mehaignerie –pasqua)، في عام (1993)، إلى رفض كل شك حول جميع الأجانب.
فالهجرة، ليست الشغل الشاغل الرئيس بالنسبة للفرنسيين، المتألمين، في المقام الأول، بسبب البطالة. وكل الاستطلاعات تبرهن على ذلك. وفرنسا بعيدة عن الاحتفاظ باتفاق عالمي لاستقبال الأجانب. إن دولة كألمانيا، على سبيل المثال، لديها عدد أكثر من الأجانب إذ يشكلون (7.6%) من عدد سكان ألمانيا، دون الحديث عن البلدان التي يتعين عليها مع نوع من العجرفة والكبرياء "كبلدان أو أمم مهاجرين" كالولايات المتحدة، كندا، أستراليا، زيلاندا الجديدة، أن تستقبل العديد من المهاجرين..
لقد كانت فرنسا، وعلى خلاف جميع الدول الأوربية الأخرى، بلد هجرة، منذ نهاية القرن الثامن عشر. ولأسباب بالتأكيد ديموغرافية، بل أيضاً، سياسية! إنها الدولة الوحيدة في أوربا التي لها تصور أو مفهوم علماني وجمهوري "وليس عرقياً" عن الأمة. فهي حاملة رسالة شمولية عن الحرية، وعن الدفاع عن حقوق الإنسان، كما تشكل ملجأ، مرسى، مأوى لجميع الديموقراطيين، تاريخياً، والمضطهدين.
فهي تستقبل، وتندمج، مع عدد من الإيطاليين، والبلجيكيين، والبولونيين، والأرمن، والإسبان، واليهود، ومن أوربا الوسطى ومن الروس، ومن البرتغاليين، ومن الجزائريين، ومن الفيتناميين.. الخ، خلال عقود من الزمن، وهذه تشكل عظمة فرنسا. وهي تقوم بذلك اليوم –فلا تسبب إزعاجاً لهؤلاء الذين يستعيدون الحجة القديمة ويتمسكون بها –عن الأجانب من يسهل تمثلهم" –أيضاً بفعالية، وأكثر من أي وقت مضى. بحيث إنهم أصبحوا يعدون أكثر من
(18) مليون من المواطنين، فهناك، على الأقل، واحد من أصل ثلاثة فرنسيين من الأجداد هو من الأجانب.
نفي رواية لأنطوني مان (Anthony Mann)، قديمة، تحت عنوان: سقوط الإمبراطورية الرومانية، الصادرة عام (1964)، شارك الإمبراطور الفيلسوف، مارك أوريل (Marc –Aurél)، نحو عام (180)م، في تخوم المناطق الجديدة من الإمبراطورية الواسعة، في عرض موكب انتصاري، شاركت فيها جحافله، وكانت مشكلّة من المرتزقة، من سيثس (Scythes)-ومن البارثيين، وفي ألبستهم أو أرديتهم التقليدية –يمرون أمامه، وتأدية التحية له... وبلغاتهم الخاصة. ويصيب مارك أوريل فجأة، وهو رابط الجأش، الغرور، بسبب مشروع الترابط والتجانس والتوحد، فقام بَلتْنَتَةِ – Latiniser –أي جعلهم لاتيناً جميعاً –جميع الشعوب الإمبراطورية. وبدا لـه أن سقوط روما، أمر لا مفر منه ومحتوم. فكل شعب من هذه الشعوب يقاسمه الأسلاب.
فكيف لا نفكر بهذا التعاقب الرمزي لفيلم (فان)، عند النظر إلى التلفاز، ومشاهدة استعراض الوفود الوطنية، خلال الاحتفال بافتتاح الألعاب الأولمبية في أطلانطا.
في شهر تموز عام (1996)؟. وكيف لا نحلم ببعث العواطف القومية أو إيقاظها –وكذلك بالنزعة الانفصالية، في الوقت نفسه بحيث تبدو الرياضة، قد غذتها، بشكل متناقض؟ لقد أصبحت النزعة القومية، هي الإحساس السياسي الأقوى في أوروبا، منذ عام (1789). إنه إحساس متناقض، ويحمل في طياته الرومانسية، والهياج الشعبي، ولا يمكن إلا أن يحمل التلاحم لجميع هؤلاء الذين يثيرهم تحرير الشعوب. لكن، يمثل أيضاً، مظهراً مهلكاً، يمكنه أن يصبح مهيمناً بسرعة، ويؤدي إلى الهياج الأعمى بـ "القيم القومية" على الرغم من وجود الآخر، ومن المنع. وقد عرفت تلك البلدان الصغيرة الجذابة، وهي على سبيل المثال -: لتوانيا، ليتونيا، وأستونيا، عرفت استقلالها بالكاد، في عشرينات القرن العشرين، ذلك الاستقلال الذي تم الحصول عليه –باسم النزعة القومية –من دكتاتوريات عاملت أقلياتها في حقد، وتشن عليهم هجمات، باعتبارهم أعداء حقيقيين. وصحيح ما يقوله كارل بوبر (karl popper) أننا "كلما حاولنا العودة إلى حقبة البطولات في الجماعات القبلية، فإننا نتعرض للوقوع في شرك التحقيق الجنائي، والشرطة السرية، والسطو بقناع رومانسي".
إننا نسمع غالباً ببزوغ الحلم في بلد ما، "من الناحية العرقية الخالصة" خلف الخطابات القومية. حلم غير معقول، كما يؤكده عالم التاريخ البريطاني إريك ج. هوبسبون Eric Hobsbawnبقوله "ليس هنالك أكثر من عشر دول، متجانسة، عرقياً ولغوياً، من بين الـ (185) دولة في العالم. ومن المحتمل، أنه، ما من دولة، تشتمل على مجمل (الأمة) –حيث تعلن ذلك بنفسها". لكن، كيف يتم تجنبُّ هذا الالتباس الخطر والوهمي؟
فهل لدى الديموقراطية، الوسائل لمنع طموح قسم من أراضيها إلى البرهنة على خصوصيته العرقية –الثقافية –إلى سيادته الكاملة، ويعلن عن استقلاله؟ ولقد واجه فاكلاف هافل (Vaclav Havel)، الرئيس السابق لتشيكوسلوفاليا، الرغبة بانفصال سلوفاكيا، وعند استقالته بتاريخ الـ (20) من تموز عام
(1992) سمح لنفسه بالقول: "لا أريد أن أصبح مَكْبَحاً للتطور التاريخي. فلم يفكر الفدراليون بهذا، عند الضغوط من الانعتاق والتحرر للمجتمع السلوفاكي، الذي تكشف عن كونه أقوى منا، ويجب احترام ذلك".
ويمكن أن يحدث وضع من الطراز نفسه في كندا. وبالتحديد في كيبك (Quebec)، هي حالة نموذجية، حيث إن بعضاً من المناطق في الاتحاد الأوربي، يراقب هذه الأحداث بأكبر قدر من الاهتمام، لأنه يطرح العديد من الأسئلة حول سيادتها، منذ العديد من العقود، وعن استقلالها، في نطاق ديموقراطي، وبطريقة سلمية، من أجل انفصالها عن كندا. لكن، يجب القيام بذلك بعد الآن، في ظرف جيوسياسي، قد تغير، على نحو لا يقبل النقاش، بسبب اتفاقية التبادل –الحر، في بلدان أمريكا الشمالية (Alena) التي تضم، كندا، المكسيك، الولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه الحالة –يفترض كل مشروع متكامل من هذا الطراز، تبني قواعد مشتركة، تحدّ من سيادة الدول، أو تخفضها، إزاء هذا المشهد أم ذاك، وبشكل خاص في المجال الاقتصادي.
لأن مراكز القرار قد ابتعدت، وأصبحت الدول، ترى –حديثاً رباط وحدتها –تلاحمها الوطني وقد تراخى وانحل أو انفصم، وأحياناً يتجزأ، خصوصاً، إذا كانت بعض هذه الأجزاء تمتلك بعضاً من الخطط الثقافية "اللغة بشكل خاص" المتميزة. وهذا يعني، كما لو أن قوة الالتحام تحث على الانفصام، أو الانقسام.
يضاف إلى ذلك. توافق الطموح الكيبيكي، مع الظاهرة الرئيسة في العولمة، في الوقت الحاضر، وهي تشجيع عدم الانتظام، خشية قيام الدول، أيضاً بالتخلي عن جوانب كاملة من سيادتها، وسلخ الحكومات من امتيازاتها الهامة، والميل إلى فرض ذلك في كل شيء، دون الأخذ بالاعتبار، الخصوصيات والمميزات الثقافية المحلية، والتصرفات الاقتصادية المُطابِقة. إذن كيف يطرح السؤال القومي في مثل هذه الظروف؟
ويبقى هذا السؤال من الحوادث الجارية، بعد الاستفتاء الذي جرى بتاريخ (30) تشرين الأول عام (1995). الذي انتهى بالهزيمة لأنصار استقلال كيبيك، بفارق قليل جداً [(49.4) من الأصوات]. بالتأكيد، فقد ذكر لوسيان بوشار (Bouchard Lucien)، رئيس الوزراء منذ (29) كانون الثاني عام (1996)، أن السيادة ستبقى الهدف للحزب الكيبيكي "في السلطة منذ عام (1994)، فيجب الانتظار، إلى أبعد حد، وهو عام (1999) من أجل التأكد، فيما إذا كان الحزب الكيبيكي سيكسب مرة أخرى أيضاً، في الانتخابات التشريعية، لأن القانون، يمنع كيبيك من تنظيم استفتاء ثانٍ للموضوع نفسه، خلال الانتداب نفسه، ليبدي المواطنون آراءهم من جديد. باعتبار أن الاستطلاعات، تشير في الوقت الحاضر، إلى أن الأغلبية قد تصل إلى (55%) من أنصار الاستقلال، ويشيرون أيضاً، إلى أن هذه النسبة محتومة، أو لا مفر منها، بالنسبة إلى (75%) من الكيبيكيين.
وفي أوناوا يبدو أن رئيس وزراء كندا، جان كريتيان (Chretien Jean)، قرر مراجعة الفدرالية بالمعنى المشجع لتطلعات كيبيك، والاعتراف أخيراً، بالصفة المميزة للمجتمع الكيبيكي، خصوصاً. لكن، يتصرف فدراليون أخرون كـ "رابحين سيئين" و-باسم مبدأ إذا كانت كندا قابلة للقسمة، فإن كيبيك قابلة أيضاً لهذه القسمة –لم يترددوا في إثارة تجزئة هذه المقاطعة الجميلة، من أجل المحافظة على حق الناطقين باللغة الإنجليزية في كيبيك في أن تبقى مرتبطة بكندا، وهم يقترحون اتفاق استقلال الدوائر وحدها بحيث تصبح (نعم) هي التي تحقق النصر.
ويشجع هؤلاء أيضاً، السكان الأصليين "من الإنوي Inuit ومن الهنود الأمريكان" على أن يعلنوا بدورهم استقلالهم تجاه كيبيك، غداً، من أجل تحجيم هذه، إلى "منطقة صغيرة، على شكل قطعة نقانق، مشكلة خصوصاً من مزارع فيما بين شرق مونريال (Montreal) ومدينة كيبيك".
مثل هذه الأفكار، غير مسؤولة، لقد أحدثت في كل مكان جرى فيه تطبيقها، حروباً لا نهاية لها من إيرلاندا الشمالية إلى القوقاز. وأكثر من ذلك، كيف تقر كندا مبدأ التقسيم الذي كان مداناً رسمياً وعسكرياً في يوغوسلافيا عندما شجع الرئيس الصربي، ميلوسوفيتش، تقسيم البوسنة والهرسك، وذلك بالاستناد إلى المبدأ القائل، وبدقة؛ "إذا كانت يوغوسلافيا قابلة للقسمة، فلماذا لا تكون البوسنة قابلة لها أيضاً"؟. ولماذا لا تضع ذلك كندا موضع التنفيذ ضد كيبيك؟.
وفي أوربا، هناك دعوات انفصالية، فهناك القوميون الذين يحلمون باستقلال منطقة الفلاندر، وآخرون في بلاد الباسك وكذلك، الإيكوس، وكورسيكا.
والواقع أن الجماعات العرقية، القليلة العدد، في منطقة قليلة الاتساع، يجب أن تجد كوابح أمام المطالبة بالاستقلال بحيث، يطرح السؤال، هل بقدرة مثل هذه المناطق العيش مستقلة في زمن العولمة؟.
وفي العالم العربي، أيضاً دعوات من هذا النوع، كالحركة الأمازيغية، في بعض دول المغرب العربي، أو ما يتعلق ببعض الأكراد، في العراق أو في سوريا.... وغيرها من الحركات المذهبية أو الطائفية، كل هذا، في زمن يسيطر فيه على العالم هاجس العولمة. وقد يؤدي ذلك، بمثل تلك المجتمعات إلى زيادة في تناقضاتها، الاجتماعية والاقتصادية، وما ينطبق على كيبيك، لماذا لا ينطبق على الأكراد، إذ تعيش بينهم بعض القبائل العربية أو التركمانية... فقد يطالب هؤلاء أيضاً بالاستقلال؟ ولو حدث هذا فإن السلسلة سينفرط عقدها.
موسى الزعبي
التسميات
عولمة