جمعية المبشِّرين المتحدة: النشأة، الانتشار، والمنهج
تُعدّ جمعية المبشِّرين المتحدة (The United Presbyterian Church Mission) واحدة من الهيئات التبشيرية النشطة والمؤثرة، وقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالكنيسة البرسبارية (The Presbyterian Church) في أمريكا الشمالية، وتحديدًا من خلال الإرسالية الأمريكية التي كانت تتبع لها الجمعية. كانت هذه الجمعية تمثل جزءًا من حركة تبشيرية أوسع نطاقًا تهدف إلى نشر المسيحية في مناطق محددة من إفريقيا.
التوسع الجغرافي وإنشاء المراكز:
بدأ نشاط الجمعية التبشيري في مصر كمنطلق أساسي لعملياتها في شمال شرق إفريقيا، ثم توسع نطاق عملها ليشمل مناطق جديدة ذات أهمية استراتيجية. امتد النشاط لاحقًا إلى السودان وأوغندا، مما يدل على خطة انتشار مدروسة لتغطية حوض النيل والمناطق المجاورة.
بعد التنسيق وتحديد مناطق النفوذ مع الجمعيات التبشيرية الأخرى، تمكنت الجمعية من تأسيس عدة مراكز دائمة لترسيخ وجودها:
- مركز تبشير جبل دوليب: أُنشئ عام 1899م.
- مركز تبشير الناصر: أُنشئ عام 1910م.
المنهج التبشيري والتركيز على التعليم المهني:
ما ميَّز جمعية المبشِّرين المتحدة عن غيرها من الجمعيات التبشيرية هو الأسلوب النوعي الذي اتبعته في عملها. بدلاً من نشر جهودها على عدد كبير من المراكز الصغيرة وغير المؤثرة، اختارت الجمعية التركيز على عدد محدود من المراكز، مما سمح لها بتعميق تأثيرها وكفاءة عملها في تلك المواقع.
كان الاهتمام الأبرز للجمعية هو التعليم الحرفي والمهني. هذا التوجه يشير إلى وعي بأهمية دمج البُعد التنموي والمهاراتي في العملية التبشيرية، حيث يوفر التعليم المهني أداة لجذب السكان المحليين وتلبية احتياجاتهم اليومية، مما يسهل قبولهم للرسالة التبشيرية المصاحبة.
السياسة الكبرى: "اللاتعريب" ومحو الهوية العربية
على الرغم من اختلاف الأساليب التنفيذية بين الجمعيات، كان الهدف الأساسي والمشترك الذي تعمل جميع هذه الهيئات ضمن إطاره هو إزالة الآثار العربية والإسلامية من إفريقيا وتهيئة القارة للتبشير وتنصير سكانها.
سميت هذه الإستراتيجية الكبرى باسم سياسة (اللاتعريب)، وهي تعني سعيًا منهجيًا ومقصودًا لمحو الهوية واللغة والثقافة العربية من المناطق الإفريقية التي وصلت إليها البعثات. وقد مُنحت كل كنيسة تبشيرية الحرية الكاملة في ابتكار وتطبيق السبل الخاصة بها لتحقيق هذه الرسالة المركزية.
استمرت هذه السياسة بشكل متواصل، ووجدت دعمًا وتكريسًا كبيرًا خلال عهد الاستعمار الأوروبي، الذي وظف كل جهوده وإمكانياته الإدارية والتعليمية لتثبيت سياسة "اللاتعريب" وتسهيل العمل التبشيري.
الأساليب المتبعة لتحقيق الأهداف التبشيرية:
اعتمدت الجمعيات التبشيرية، ومن ضمنها جمعية المبشِّرين المتحدة، على مجموعة من الأساليب العملية والمباشرة لتنفيذ أهدافها:
1. تعليم القراءة والكتابة باللغات الأوروبية:
- تمثل التعليم كأحد أهم الأدوات. ولغياب المدارس المؤسسية النظامية في تلك الفترة، لجأت الجمعيات إلى ما سُمي بـ مدارس الأحراش أو المدارس البدائية التي كانت تقام في العراء أو تحت الأشجار.
- كان التعليم يتم بشكل حصري باللغات الأوروبية (كالإنجليزية أو الفرنسية)، متجاوزين بذلك اللغة العربية، مما يخدم سياسة "اللاتعريب" بشكل مباشر.
2. التلقين الديني للأطفال عبر الموسيقى:
- استُخدمت الموسيقى والأنغام الموقعة كأداة فعالة لجذب الأطفال الإفريقيين، حيث كان لهذه الأساليب صدى كبير في الثقافة الإفريقية.
- تم توظيف الأغاني والمقطوعات لتعليم وتلقين الأطفال المبادئ الأولية للدين النصراني بطريقة شيقة ومحببة، مما يرسخ العقيدة في سن مبكرة.
3. تقديم الخدمات العلاجية (الإنسانية والبيطرية):
- شكلت الخدمات الطبية مدخلاً إنسانيًا فعالاً للقبائل، حيث تم إنشاء عيادات متنقلة تتنقل بين القبائل لتقديم العلاج.
- كان هناك تركيز خاص على الخدمات البيطرية لعلاج الحيوانات، ولا سيما الأبقار، التي تُعدّ حيوانات مقدسة أو ذات قيمة اقتصادية واجتماعية عليا لدى العديد من القبائل الإفريقية. من خلال الاهتمام بما يقدّسه الإفريقي، كسبت الجمعيات ثقته ومودته، مما فتح الباب أمام رسالتها التبشيرية.