من انهيار الشيوعية إلى انهيار روسيا.. انخفاض الإنتاج الروسي وانهيار نسب الاستثمار وتراجع استخدام النقد وظهور اقتصاد المقايضة

لم تتوقع الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، ولا الاستراتيجية انهيار النظام الشيوعي، هذا الخصم السوفياتي إذ تضمن هذا المدى نوعاً من التلاطم السلبي، غداة الحرب العالمية الثانية، فأصبحت الولايات المتحدة، في بداية تسعينيات القرن العشرين، مرهونة بنوع من وعي نواقصها الاقتصادية، من جانب آخر، وصف ميشيل بورتير (MICHEL PORTER)، ومنذ عام (1990) الرأسماليات المتنوعة، اليابانية، والألمانية، والسويدية والكورية الجنوبية، وهي ذات فعاليات أكثر، من فعالية الرأسمالية الأنجلو- ساكسونية، وذلك في مجلة "المنافسة في أفضلية الأمم" THE COMPETITIVE ADVANTA GE OF NATIONS، في مجالات الإنتاج، حيث لا تقبل القواعد الليبرالية بها، إلا إذا كانت هذه أكثر فائدة لها.
وقد بدا انهيار الشيوعية، وهي العدو الرئيس، بدا في المرحلة الأولى، أنه سيؤدي إلى انبثاق منافسة بين القوى الرأسمالية، الأوربية والآسيوية. وأعلن لستر تورو(LESTER THUROW)، في عام (1993) أن الحرب الاقتصادية القادمة، ستكون بين الولايات المتحدة وأوربا واليابان، في برنامج متلفز (HEAD A HEAD) ويجب علينا أن نفهم تماماً، أنه في هذه المرحلة، لن تواجه الحكومات الأمريكية، مع الحكومات الأخرى، اختفاء روسيا، باعتبارها قوة أعظم، مسبقاً بتوقع انهيار الشيوعية، قبل عدة سنوات، فقد بالغ العالم المتطور في تقدير المشاركة، كما بالغ بفعالية الاقتصاد الشيوعي.
ولقد كانت الفرضية، الأكثر احتمالاً، هي المحافظة على بعض التوازنات استراتيجي روسي، في عالم تخلص من استقطابها الأيديولوجي منذ تسعينيات القرن العشرين، الذي كان يشتمل على قوتين بشكل مستمر. حتى أمكن الحلم بعالم يناصر المساواة، بين أمم تقبل قواعد اللعبة نفسها، في آخر الأمر، وبشكل متوازن. لعبت الولايات المتحدة، لعبة العودة إلى التوازن بين الأمم، دون التنفيذ، كما بذلت جهوداً في نزع أسلحة الدمار الشامل، لكن بطريقة انتقائية، دون أن يشار إلى دور الإمبريالي الأمريكي في التفكك السياسي للفلك السوفياتي السابق، الواضح، في الفترة (1990-1995).
فقد انخفض الإنتاج الروسي بمقدار (50%)، في الفترة (1990-1995) وانهارت نسب الاستثمار، وتراجع استخدام النقد، وظهر اقتصاد المقايضة، من جديد في بعض المناطق.
وأدى استقلال أُكرانيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان- عرقياً، نصف روسي –إلى التخلص من القلب "السلافي" في نظام يتضمن (75) مليوناً من المواطنين، وفقدت روسيا وضعها، كمعادلة، للولايات المتحدة، تقريباً، من جهة نظر الكتلة الديموغرافية. فكان عدد سكان الاتحاد السوفياتي (268) مليون في عام (1981)، في حين، كان عدد سكان الولايات المتحدة (230) مليون، لكن، لم يعد لروسيا من السكان، سوى (144) مليون مواطن، في عام (2001)، في حين وصل عدد السكان في الولايات المتحدة (285) مليون.
والأسوأ، أن المطالب القومية والعرقية، أخذت تمس ليس فقط، الجمهوريات السوفياتية السابقة، بل أيضاً المناطق المستقلة ذاتياً، في الاتحاد الروسي، من القوقاز إلى تاتارستان، وتبدو الإدارة المركزية، فقدت السيطرة على المناطق البعيدة السيبرية. وتم الاعتماد على القطيعة بين روابط المناطق الروسية الخالصة، على نحو من التجزئة والانقسام، مع إقطاعة الدولة الروسية.
كل هذا يتطلب التكامل الكلي، ويبدو أن الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة، أوشك على الاختفاء، دون شروط. وهنا، يتبدى الخيار الإمبراطوري للولايات المتحدة، إذ أصبحت فرضية عالم غير متوازن، تهيمن عليه عسكرياً الولايات المتحدة، يشتمل على عنصر من الاحتمال.
ولقد أدت المساعدات الضعيفة، إلى بعض من أطراف الاتحاد الروسي، في القوقاز، وفي آسيا الوسطى، من قبل الولايات المتحدة، أدت إلى إنعاش الإثارات فيها، وإحداث من القلاقل، في هذه الأجزاء من رقعة الشطرنج التي ظهرت في كتاب برززنسكي، الذي يحمل عنوان: "رقعة الشطرنج الكبرى (THE GREAT CHESS BOARD)، وهو الكتاب الاستراتيجي الأكثر وضوحاً وتماسكاً أو تلاحماً، حول ضرورة توفر الوسائل لإقامة هيمنة تفتقر للتناسق للولايات المتحدة في أوراسيا، والذي ظهر في عام (1997).
فقد جعل الانهيار الروسي، من الولايات المتحدة، القوة العسكرية الأعظم الوحيدة في هذا العالم، وتسارعت العولمة المالية، على نحو موازٍ: فقد تحول الرصيد الإيجابي لحركات رؤوس الأموال بين الولايات المتحدة وباقي العالم من (60) مليار دولار، إلى (271) مليار دولار سنوياً، في الفترة (1990-1991). ويمكن أن تخضع هذه الزيادة، إلى الاستهلاك الإضافي غير المُغَطَّى، بالإنتاج.
مع ذلك، يجب أن لا تؤدي فكرة الخيار الإمبريالي، من قبل زعماء الولايات المتحدة، الواضح، ومن قبل المخططين المهرة بنوع من النبوغ والتفوق لا تؤدي إلى الإقرار باستراتيجية هؤلاء، وتطبيقها على الأثر، مع الإصرار الذي يقود إلى الانتقاء أو الاختيار الإمبريالي، بل على العكس تماماً، والتخلي عن أفضلية المثابرة للسهولة، خلال المجرى الطبيعي للأمور، فالطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة فاقدة الإرادة، أمام المشاريع الإيجابية، بالنسبة لما يماثلها من التوابع الأوربيين الذين يتعرضون للنقد الشديد، بسبب ضعفهم. وتتطلب إعادة البناء "الأوربي" جهوداً من التشاور، ومن التنظيم، بعد كل خطوة، فالطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، عاجزة تماماً، في المرحلة الحالية، عن مواجهة هؤلاء الأوربيين.
والخيار الوطني، بالنسبة لها مؤكد أكثر، على المدى الطويل، وبأنه قابل للتحقيق فيها، أكثر من أي مكان آخر، مع الاعتبار لكتلتها القارية المركزية، ونظامها المالي. مما يستدعي جهداً حقيقياً من التنظيم والضبط، من جانب الإدارات المتعاقبة: سياسة نشيطة، وتمتع بالحسم، وسياسة حماية للصناعة، على أن يترافق هذان العنصران، بسياسة متعددة الجوانب في الخارج، من أجل تشجيع الشعوب، والأمم الأخرى، والمناطق، على أن تتطور نحو استقلال ذاتي، مؤاتٍ للجميع، وتتطور عملية إعادة دينامية الاقتصاد، على قاعدة من الأقلمة (REGIONALISTE) التي ستسمح، بمساعدة فعالة للبلدان النامية، لتصبح الديون المتراكمة عليها، ملغاة، وذلك بدلاً من العودة للنزعة الحمائية. وستعمل الخطة العالمية، من هذا الطراز، على جعل الولايات المتحدة، زعيمة عالمية، وحازمة في تطبيق تلك المبادئ وسيكون السهر على التنفيذ مُتْعباً للغاية، بمواجهة عقبات شتى.
لقد كان الأمر أكثر سهولة، ومقيداً أكثر، لو تم الكشف عن تدفق رؤوس الأموال، والانزلاق نحو عجز مالي لا نهاية لـه منذ الكشف عن الانهيار النهائي للاتحاد السوفياتي، وظهور الولايات المتحدة، كقوة أعظم وحيدة، وقد أصبح التبرير الإيديولوجي الليبرالي لمبدأ "دَعْهُمْ يعملون"، الخيار الإمبريالي، نتاجاً لمبدأ (دعهم يمرون)، من الناحية النفسية بشكل خاص.
لقد تضمنت هذه الاستراتيجية الطموحة في أهدافها، والسلبية في تعليلاتها، خطراً رئيساً: إذ لا دليل يؤكد أن القوة الروسية قد ماتت بشكل نهائي، في عام (1997)، وتتحمل الولايات المتحدة خطراً جسيماً في كل سياسة خارجية، تعتبرها واشنطن كمكسب لفرضية غير أكيدة أيضاً: ألا وهي، أن تجد نفسها، في حالة من الاعتماد الاقتصادي بشكل خطير، في يوم ما، دون أن تملك تفوقاً عسكرياً حقيقياً. وباختصار تبين أن هذا التحول، من الوضع نصف الإمبريالي إلى وضع إمبريالي كامل، هو وضع كاذب.
وستصبح الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة، الموافقة للخيار الإمبريالي، متبوعة بسياسة ثابتة، على الأقل، إذا صُمِّمَت بعزم، لكنها لم تكن كذلك، وكان التحليل الأكثر عقلانية وصواباً وصراحة للمشاريع الإمبريالية، هو النموذج البرززنسكي- من أجل أن تبدو لنا تلك الاستراتيجية ثابتة والنوايا –جازمة- و ليصبح القادة الأمريكيون قادرين على التحمل والاستمرار، وقد أكدت الفحوص الدقيقة، أنهم حققوا، كل ما هو سهل، وتخلوا، عن كل ما يتطلب استثماراً هاماً، في الزمن وفي الطاقة.
موسى الزعبي

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال