التبشير.. دعوة النصارى الآخرين إلى النصرانية. الحروب الصليبية. تعويض الخسارة التي لحقت بالكنيسة في أوربا أمام موجة الحضارة الجديدة الناشئة في الغرب



التبشير لفظة مشتقة من بشر بمعنى فرح وتهلل، ومنه البِشَارة، وهي الخبر السار الذي لايعلمه المخبَر، والبُشرى هي ما يبشَّر به أو ما يعطاه المبشَّر.

والتبشير بالمعنى الاصطلاحي يطلق على دعوة النصارى الآخرين إلى النصرانية.

ويزعم النصارى أن هذا الأمر صدر لهم من المسيح حين قال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 28/20) فيزعم النصارى أنه بموجب هذا الأمر كان لابد لهم أن يسيروا لتبليغ النصرانية إلى الأمم.

وهكذا خرج دعاة النصرانية يكرزون الأمم، وانتشرت النصرانية في ربوع أوربا، كما انتشرت في بعض مناطق أفريقيا كالحبشة ومصر.

ولما ظهر الإسلام دخلت الأمم في دين الله أفواجاً، ودخل الإسلام إلى مهد النصرانية في بلاد الشام ثم مصر ثم آسيا الصغرى، ثم بعد حين توقف عند أبواب فرنسا.

وطوال قرون عديدة تواصلت الحروب الصليبية تروم العودة إلى البلاد المباركة، ولكن من غير فائدة أو جدوى.

وقد اتجه المبشرون إلى العالم الإسلامي خلال سنين طويلة متباعدة، وكان أرخبيل أندنوسيا هو باكورة النشاط لهم حيث وصل المبشر المشهور فرنسيسكوس اكسافيريوس في 1546م، ثم تتابع المبشرون مع وقوع البلاد تحت الاستعمار البرتغالي ثم الهولندي ثم الإنجليزي.

وقد كان الجهد المبذول في تبشير أندنوسيا عظيماً، فقد وصل عدد الكهنة الكاثوليك عام 1973م إلى130 كاهناً، ويضاف إلى ذلك 22 أبرشية، 9 هيئات للرهبان والراهبات، و33 مطرانية، فيما وصل عدد الكاثوليك إلى مليون وربع كاثوليكي.

وفي القرن الثامن عشر توافدت البعثات التبشيرية على أراضي الخلافة العثمانية مستغلة ضعف الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها، حيث وضعت بلاد المسلمين تحت الاستعمار بأنواعه المختلفة.

وقد تجمعت فلولهم في مالطة عام 1815م (1213هـ) ووضعوا برامج للتبشير في الدول العربية استجابة لبرنامج إنجليزي اسمه "مشروع تنصير بلاد البحر الأبيض المتوسط" وأرادوا من خلال انتشارهم في الشرق الإسلامي تعويض الخسارة التي لحقت بالكنيسة في أوربا أمام موجة الحضارة الجديدة الناشئة في الغرب.

ففي عام 1830 غزت فرنسا الجزائر، وقد صحب الجنرال الفرنسي بورمنت ستة عشر قسيساً، وقال لهم بعد سقوط مدينة الجزائر: "إنكم أعدتم معنا فتح الباب للنصرانية في أفريقيا، ونأمل أن تنبع قريباً الحضارة التي انطفأت في هذه الربوع.

فيما وصل أول المنصرين إلى السودان عام 1265هـ (1848م) بأمر من البابا جريجوري السادس، وكان قد أمر عام 1263هـ بإنشاء نيابة أفريقيا الوسطى الرسولية.

وكانت الإرساليات التبشيرية قد زعمت أنها أتت لمحاربة تجارة الرقيق التي استشرت في أوربا، ورأت أن الوسيلة المثلى للقضاء عليها هي تتبعه في أماكن تصديره كما نص على ذلك مذكرة بوكستن المقدمة للحكومة البريطانية عام 1254هـ.

وقد مني التبشير والاستعمار بنكسة كبيرة بسبب ثورة المهدي 1302هـ فقتل الجنرال غوردون، وعلقت لجنة إدارة الإرساليات نشاطها في السودان، ثم عادت مع عودة الجيش البريطاني بقيادة كتشنر.

وقد عمل المستعمر البريطاني على تقسيم السودان أمام الإرساليات التبشيرية إلى قسمين: أولهما: القسم الشمالي وهو منطقة شبه محرمة يمنع العمل التبشيري فيها إلا في حدود ضيقة، وقد سمح للمبشرين بالاهتمام بتحرير العبيد ودعوة الوثنيين.

ثم سمح لهم بإقامة مراكز طبية في الخرطوم، والذي دفع المستعمر البريطاني لهذا التضييق هو خشيتهم من ثورة مشابهة لثورة المهدي في القسم الشمالي المسلم.

وأما القسم الثاني فهو جنوب السودان، وقد فتحت أبواب التبشير فيه على أكمل وجه، وتقاسمته الإرسالية البريطانية والأمريكية، وكان العمل في جنوب السودان على مرحلتين: أولاهما: التخلص من الوجود الإسلامي بمحاربة العرب ولغتهم وإبعادهم بواسطة أوامر إدارية (من المستعمر) تنقل الموظفين المسلمين إلى الشمال المسلم، كما منعوا وصول التجار المسلمين إلى الجنوب، وشجعوا اللغة الإنجليزية على حساب العربية.

وتنفيذاً لهذا كله قامت الكنيسة بفصل أسقفية الجنوب عن مصر وشمال السودان في عام 1345هـ، وألحقت بهذه الأسقفية الجديدة (أسقفية أعالي النيل) كنيسة أوغندا، ورسم أول أسقف سوداني في الجنوب عام 1955م، وهو الأسقف دانيال ينج.

وفي مصر تحولت الإرساليات التبشرية عن العمل في كثلكة الأرثوذكس إلى تنصير المسلمين بعد وصول القوات البريطانية عام 1300هـ، وفي عام 1320هـ (1902م) أجاز المؤتمر العام للكنيسة المسيحية بمصر مشروع تنصير المسلمين.

وقد أكد مؤتمر القاهرة 1324هـ على "أن الهدف الأساسي للإرسالية في مصر هو إقامة كنيسة وطنية من المسلمين المتنصرين".

وقد أصبحت هذه السياسة أكثر وقاحة بعد القضاء على الثورة 1339هـ.
ويؤكد المبشر مارسون التابع للكنيسة البريطانية (1346هـ) هذا الاتجاه ويبين أن سببه فشو الإسلام بين الأقباط، فيقول: "تؤكد الاحصائيات حتى في هذه السنين بأن الذين يتحولون من الكنيسة القبطية للإسلام لايقلون عن خمسمائة قبطي سنوياً".

وفي سوريا بدأ التبشير خارج إطار النصارى بعد دخول الاحتلال الفرنسي، حيث دخل الفرنسيون إلى جبال العلويين، واستكتبوا رجلاً يدعى محمد تامر زعم أن قبائل العلويين من أحفاد الصليبيين، وقد تنصرت اثنتان وعشرون أسرة (قرابة 80 شخصاً)، وعمدوا في جنينة (حديقة) رسلان في أغسطس عام 1930م.

 ثم ذهب الأب شانتور رئيس الجامعة الأمريكية بعد ذلك بشهرين مع خمسة من المبشرين، وأسسوا ثلاث مراكز للتبشير في المنطقة.

وكانت فرنسا والولايات المتحدة قد وقعتا في عام 1924م اتفاقاً يسهل عمل المؤسسات التبشيرية ويمنع تقييد عملها في المناطق المحتلة من قبل فرنسا.