المدح الجاهلي للاعتراف بالجميل.. فن المدح عند زهير بن أبي سلمى وامرئ القيس

وقف زهير بن أبي سلمى من فن المدح، الذي كثر توجيه سهام الاتهام إليه مـن قبل النقاد والباحثين على أنه كان بابا واسعا من ابواب النفاق في الشعر العربي، موقفا تجاوز فيه هذا المستوى، بل نقضه تماما، حين أصدر فنه خالصا من منظور الصدق الفني والاجتماعي معا، إذ اتسقت نفسه وفنه، وراح يترنم بهذا الموقف الحضاري الذي اعجب به حول قضية السلام، والتغيير من شريعة الغزو، التي شقت سبيلها عبر نفوس الجاهليين، وأصبحت قاعدة عامة في حياتهم ، فكانت معلقته صورة من إخلاصه لقضية السلام.

وظل صوته يرنّ في مسامعنا، مشنفا آذاننا، وهو يكيل المديح لسيدين كريمين سعيا بالصلح بين عبس وذبيان، في حرب داحس والغبراء.. وهذان السيدان هما: الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، ومما قاله في مدحهما:
وأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجال بنوه من قريش  وجـرهم
يمنيـا لنعـم السيـدان وجدتما
على كل حال من سحيـل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيـان بعـدما
تفانوا ودقوا بينهـم عطـر منشم
وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعا
بمال ومعروف مـن القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن
بعيدين فيها من عقـوق ومـأثم
عظيمين في عليـا معد هديتمـا
ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

وقد يثير قول ابن رشيق: "ان زهيرا تكسب بالشعر يسيرا مع هرم بن سنان تساؤلا عن الدوافع التي دعته إلى قوله، مع أنه يعلم أن زهيرا لم يكن إلا واحدا من الشعراء الذين وصفهم هو نفسه، بأنهم لا يمدحون "إلا مكافأة عن يد لا يستطيعون أداءها حقها إلا بالشكر إعظاما لها"، وهو يعلم أيضا أن مديح زهير لهرم ولغير هرم لا يكاد ينبئ عن تطلع إلى ما في يد الممدوح.

أما النماذج التي فرغ زهير فيها لمديح هرم فإنها  تنبئ عن عناية خاصة، وتكشف عن إعجاب عميق، لعله كان وليد طموح في نفسه إلى الشخصية المثلى التي لم تعنه ظروفه الخاصة على تحقيقها فيه، فلما وجدها في هرم راح يمجد المثل العليا. والقيم الانسانية من خلالها، بحماسة بدت أليق بالفخر منها بالمديح.

وتمثل مدائح امرئ القيس التي كان يمدح بها مَنْ أجاره، أو من عطفوا عليه حين قام مطالبا بثأر أبيه - البداية الطبيعية التي بدأ بها موضوع المديح في الشعر الجاهلي، وذلك على نحو ما نرى في هذه الأبيات التي يمدح بها المعلى التيمي، وكان قد أجاره، ومنعه من المنذر بن ماء السماء، الذي كان يطلبه، ويلح عليه في طلبه، ومما كان قد مدحه به قوله:
كأني إذ نزلـت علـى المعلـى
نزلت على ا لبواذخ من شمام
فما ملـك العـراق على المعلى
بمقتـدر ولا مـلـك الشـآم
أصـد نشاص ذي القرنين حتى
تولى عارض الملـك الهمام
أقر حشا امرئ القيس بن حجر
بنو تيـم مصابيـح الظلام

ومدح بني سعد، أيضا، لحدبهم عليه، وتقديمهم له الحماية، بعد مقتل أبيه، فقال:
منعت الليث من أكل ابن حجر
وكاد الليث يودي  بابن حجـر
منعـت فأنت ذو مـن ونعمى
علي ابن الضباب بحيث تدري
سأشكرك الذي دافعـت عني
وما يجزيك عني غير شكري
فما جار بأوثـق منـك  عهدا
فنصرك للطريـد أعـز نصر

وأغرى فريق من قبيلة طيء بشر بن أبي خازم بهجاء أحد زعمائهم، أوس بن حارثة، بدافع الحسد والتنافس، ويستجيب لهم بشر ويهجوه.. فغضب أوس لذلك، ونذر لئن ظفر به ليحرقنه، فلم يبال بشر بذلك، بل أمعن في هجاء أوس.. ويجد أوس وقومه في طلب بشر، ويظفرون به يوم ظهر الدهناء.. وكاد أوس يحرق بشرا لولا تدخل أمه.. فعفا عنه، ويغمر حلم أوس وعفوه نفس الشاعر ويمدح أوسا بقصائد يمحو فيها ما كان قدهجاه به، ومما قاله:
وإني لراج منك يا أوس نعمــة
وإني لأخرى منك يا أوس راهب
فهل ينفعني اليوم إن قلـت إننـي
سأشكر إن أنعمت والشكر واجب
وإني قد أهجرت بالقـول ظالمـا
وإني منه يا بن سعـدى لتـائب
وإني إلى أوس ليقـبل عـذرتي
ويعفو عني ما حـييت لراغـب
فقل كالذي قال ابن يعقوب يوسف
لإخوته والحكم فـي ذاك راسب
فإنـي سأمحو بالـذي أنـا  قائل
به صادقا ما قلت إذ أنـا كاذب

وقد يضطر الشاعر الفارس إلى مدح أعدائه، ففي يوم فلج أسر عرفجة بن بجير العجلي خالد بن سلمة النهشلي، وما لبث أن من عليه، ولم يخف خالد إعجابه بما شاهد من كرم أعدائه واحترامهم للأسير، فقال:
وجدنا الرفـد رفـد بـني لجـيم
إذا مـا قلـت الأرفـاد زادا
هم ضـربوا القبـاب  ببطن فلج
وذادوا عن محارمهم  ذيـادا
وهـم منـوا علـي وأطلقونـي
وقد طاوعت في الجنب القيادا
أليسوا خير مـن ركب المطـايا
وأعظمهم إذا اجتمعوا رمـادا
أليسو هم عمـاد الحـي بكـرا
إذا نزلـت  مجـللة  شـدادا
ألا أبلـغ بنـي ذهـل رسـولا
فلا شتمـا أردت ولا فسـادا
وهم ضربوا الكتائب يوم كسرى
أمان الناس إذ  كرهوا الجلادا

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال