الموضوع الأكراني في روسيا.. إذا انقطعت أكرانيا عن روسيا فلا يمكنها إلا أن تسير ببطء شديد في طريق الإصلاحات

كان تقطيع روسيا، في الفترة (1990ـ 1998) بعيداً جداً، أن يؤدي إلى خسارة سيطرة الدولة الروسية، على السكان الروس، عرقياً. ففي حالة بلدان البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى ـ وهي مناطق، غالبية السكان فيها من غير الروس، ربما يفسر الارتداد، كتراجع إمبريالي، أو نزع للاستعمار. أما في الحالة البيلوروسية، وأكرانيا، والنصف الشمالي من كازاخستان فروسيا قد فقدت جزءاً من فلك هيمنتها التقليدية. ولم يكن لها وجود مطلقاً، كذات أو ماهية دولية مستقلة ذاتياً، كذلك في شمالي كازاخستان، ربما تعتبر خسارة السيطرة، في هاتين الحالتين، كتأثير مناقض لغياب السلطة، أو متناقض مع احترام الحدود الناشئة في تلك الحقبة السوفياتية. أما حالة أكرانيا، فهي أكثر تعقيداً، مع ثلاثة أجناس ـ أكرانيين بابويين أو أونيات UNIATE ـ "صفة المسيحي أو الكنيسة الشرقية التي تعترف بسيادة السلطة البابوية" ـ إلى الغرب، ثم أكرانيين أرثوذوكس، في الوسط، وروس إلى الشرق. ويمكن للانفصال أو الانشقاق القطعي، أن يصبح موجهاً، مع واقعية أكثر. وقد يكون هانتنغتون على حق، حسبما هو محتمل، عندما يؤكد موقفاً، ضد موقف برززنسكي من أكرانيا، حيث يقول: إن أكرانيا مدعوة إلى الرجوع إلى المسار الروسي من جديد. فلا يمكن القول، في هذه الأثناء، بالتفسير الديني المسيطر للظاهرة. واستقلال أكرانيا تجاه روسيا، ناتج عن ثوابت تاريخية بوجه آخر، ثقيلة وهامة.
ومن وجهة نظر أكرانيا، يأتي التجديد من روسيا، على الدوام. فنحن هنا في مواجهة ثابتة من الثوابت التاريخية ـ وهي الثورة البلشفية التي ولدت في روسيا ـ وأكثر تخصيصاً في الجزء المهيمن تاريخياً ـ المجال الرحب ـ حول محور موسكو ـ بطرسبورغ. حيث ولدت هناك الدولة الروسية، وانطلقت من هناك جميع موجات التحديث من القرن السادس عشر، إلى القرن العشرين، وهنا أيضاً تَمَّت الثغرة الليبرالية، في تسعينيات القرن العشرين. إن هدم أو تدمير الشيوعية، وموجة الإصلاح، التي تتتابع اليوم، ولدت في موسكو، ونُقِلَت باللغة الروسية. وإذا انقطعت أكرانيا عن روسيا، فلا يمكنها إلا أن تسير ببطء شديد في طريق الإصلاحات. وهذا، مصون من قبل صندوق النقد الدولي، مهما يكن التحرك الأيديولوجي والشفهي. 
أكرانيا ليست سوى منطقة لها بنية على شكل سيّئ، مختلطة، لم يكن لها في الأصل ظاهرة هامة في التحديث، تاريخياً واجتماعياً. فهي محيطية روسية، بصورة رئيسة، خاضعة لاندفاعات من المركز، ومميزة بنزعتها المحافظة، في جميع الأزمنة؛ معادية للبلشفية، ومعادية للسامية. وأصبحت في الفترة (1917ـ 1918) أكثر رسواً أو رسوخاً في الستالينية، من روسيا نفسها منذ عام 1990.
ويخطئ الغربيون الذين يرون أنها بسبب تموضعها الجغرافي إلى الغرب، وبسبب الأقلية من التابعية القريبة من الكاثوليك، بالإعلان عن استقلالها، تعزل نفسها عن الثورة الديموقراطية المسكوفية ـ البطرسبورغية، حتى إذا وصلت إلى وضع مكنها من الحصول على اعتمادات مالية غربية ويجب أن لا نبالغ مع ذلك، بوجود النزعة المحافظة المحيطية في أكرانيا. وخرجت مصاعبها من نزعة رئاسية متسلطة خالصة، مع ذلك، لا يمكن مقارنتها مع تلك النزعة في كازاخستان أم في أوزباكستان.
لم يكن السيناريو المقترح، من قبل برززنسكي، مع ذلك، غير معقول. فيوجد، ما يكفي من التمييزات الثقافية بين أكرانيا وروسيا، من أجل أن تتحدد أكرانيا ذاتياً كمتميزة. لكن محرومة من دينامية خاصة. أكرانيا لا تستطيع أن تتهرب من روسيا، إلا بالمرور، بفلك قوة أخرى. فقوة الولايات المتحدة، بعيدة جداً، ومجردة جداً لتؤدي خدمة موازية للخدمة الروسية. وأوربا، قوة اقتصادية حقيقية في قلبها ألمانيا. لكنها ليست قطباً للقوة العسكرية والسياسية. لكن إذا أرادت أوربا أن تصبح قطباً للقوة العسكرية والسياسية فليس من مصلحتها أن تجعل من أكرانيا تابعاً لها، لأنها ستصبح بحاجة لقطب موازٍ لروسيا من أجل الانعتاق من وصاية الولايات المتحدة.
يمكننا أن نقيس هنا، انعدام وجود محسوس لاقتصاد الولايات المتحدة، في قلب أوراسيا! قوة لا يمكن لثقلها أن يوازن ثقل أوراسيا التجريدية، مع إنتاجها، خصوصاً، بالنسبة لبلد ما، متطور، مثل أكرانيا، فليس للولايات المتحدة أشياء كثيرة تعرضها، إذا وضعنا صادراتها العسكرية، وبعض الحواسيب، جانباً. فهي لا تصدر المعدات الإنتاجية، والحاجات الاستهلاكية، وهو ما تحتاجه أكرانيا. أما ما يتعلق برأس المال، فإنها على العكس، تمتص ذلك، حارمة العالم النامي من مصادر محررة من اليابان ومن أوربا. وكل ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة، هو إيهام العالم بقوتها المالية، وفي مجال السيطرة السياسية والأيديولوجية، ونفوذها لدى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. وهي مؤسسات، يمكنها بعد اليوم أن تتجاوز ما يطلب منها، بفضل فوائضها التجارية، دون الاتفاق مع روسيا.
ويمكن للولايات المتحدة، أن تعرض نفسها، من أجل استهلاك السلع المنتجة في أكرانيا، عند الاقتضاء، بطبيعة الحال، وأن تدفع لها بأموال تُضَخُّ من أوربا أو اليابان، أو أمكنة أخرى، لها سيطرة عليها، وهي كثيرة. لكن تكشف المبادلات التجارية ـ خصوصاً ـ اعتماد تركيا تجاه روسيا وأوربا، وخارج الولايات المتحدة. ففي عام (2000) استوردت أكرانيا، حاجات، بلغت قيمتها (8040) مليون دولار، من جماعة الدول المستقلة، مقابل (5916) مليون دولار من باقي العالم، ومن أوربا بصورة رئيسة(6). ومثلت المعدات والخدمات القادمة من الولايات المتحدة والتي بلغت قيمتها الـ (190) مليون دولار، مثلت (1.4%) من المجموع(7). وصدرت أكرانيا، خلال العام نفسه ما قيمته (4498) مليون دولار نحو بلدان السوق الأوربية المشتركة، و(10075) نحو باقي العالم. في حين صدرت أكرانيا للولايات المتحدة ما قيمته (872) مليون دولار فقط، ويساوي ذلك (6%) من المجموع فقط. ولا تغطي أكرانيا مبادلاتها مع مجموعة الاتحاد الأوربي. إلا بمقدار (56%). ومبادلاتها تشكل فائضاً تجاه باقي العالم، مع نسبة غطاء تساوي (170%).
هنا، حيث تظهر التجردية الأكثر وضوحاً، الخاصة بإمبراطورية الولايات المتحدة: فلا تغطي الولايات المتحدة واراداتها القادمة من أكرانيا، إلا بمقدار (22%) ـ ويجب أن لا نهمل المظهر الدينامي للعملية: ولم تكن الولايات المتحدة في حالة عجز في تجارتها مع أكرانيا، إلا منذ عام (1994). وحررت في الأعوام (1992) و(1993) فائضاً خفيفاً بالاستهلاك هو الأكثر وضوحاً، التخصص الأساس في الاقتصاد في الولايات المتحدة وفي النظام الدولي. فلم تعد الولايات المتحدة كذلك. فهي أقل، مما يمكن قوله عن الوضع بخصوص الإنتاج المفرط، عما كان عليه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. لهذا نتساءل: لماذا، لم تعد تستطيع أن تكون الموزع لخطة مارشال جديدة، عندما خرجت البلاد من الشيوعية؟ فقد كانت بحاجة إلى مثل تلك الخطة. إذ كانت تقع في فلك الاتحاد السوفياتي وهو من جهة أخرى، كبقية النهابين.
إن ما يمكن تأكيده بالنسبة لأكرانيا، هو أنها لن تذهب لتغير موضعها. فتقاربها مع موسكو، هو بوجه الاحتمال، مستحيل، من أجل تقويم موقف، بلا شروط، من قبل روسيا. فروسيا إذا انطلق اقتصادها من جديد، فإنه سيذهب ليصبح شكلاً سياسياً من جديد، حقيقياً وجديداً، متضمناً الزعامة الروسية، واستقلالاً ذاتياً عن العديد من القوى بالتتالي، وستصبح بلاروسيا ملحقة فعلياً، وستبقى أكرانيا مستقلة ذاتياً حقاً، لكن ستصبح روسيا ثانية، صغيرة أو جديدة. مفهوم "مجموع روسيا" سيظهر من جديد، مع وعي الفاعلين المحليين والدوليين. وستحتفظ أرمينيا، فيما وراء القوقاز، بوصفها حليفة حبيسة لروسيا، خوفاً من تركيا، الحليفة المتميزة للولايات المتحدة. وستدخل جورجيا في الصف، وسترجع جمهوريات آسيا الوسطى، ثانية تحت نفوذ كازاخستان، نصف الروسية أيضاً، والتي تحتل مكاناً خاصاً في التشكيل أو الجهاز الروسي، بكل وضوح. وسيضع بروز روسيا من جديد ـ كفاعل أو عامل اقتصادي وثقافي دينامي، في هذه المنطقة بالتأكيد ـ القوات المتمركزة في أوزباكستان من قبل الولايات المتحدة، وفي كيرخيستان، في وضع غريب، كتعبير، عن عدم وجود أجسام غريبة، وسيأخذ هذا كل معناه في المستقبل. هذه العملية، لإعادة التنظيم ستخلق على الفور كياناً متعدد الجنسيات، إلى الشرق من الجماعة الأوربية، وستكون روسيا القوة المرشدة الرئيسة فيها. لكن، ستجعل الحالتان ـ الصفة المعقدة للنظام السياسي ـ سيجعل كل سلوك عدواني، صعباً حقاً، وكل دخول في نزاع عسكري رئيس في وضع صعب، إلى أقصى حد.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال