نشأة الأطفال في بيئة فقيرة واحترام الكرامة الإنسانية وتحقيق التكافل الاجتماعي

أما عامل الفقر فهو عامل كبير في انحراف الولد النفسي،ويقوى جانب هذا الانحراف فيه حين يفتح عينيه ويرى أباه في ضائقة،وأسرته في بؤس وحرمان..ويزداد الأمر لديه سوءاً حين يرى بعض أقربائه أو أبناء جيرانه،أو رفاقه في المدرسة..وهم في أحسن حال،وأبهى زينة،وأكمل نعمة..وهو كئيب حزين لا يكاد يجد اللقمة التي تشبعه،والثوب الذي يستره..
فولدٌ هذه حاله ماذا ننتظر منه أن يكون نفسيّاً؟ حتماً سينظر إلى المجتمع نظرات الحقد والكراهية..وحتماً سيصاب بأمراض من مركبات النقص،والعُقد النفسية..وحتماً سيتبدل أمله إلى يأس،وتفاؤله إلى تشاؤم..عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:" كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا .."[1]
بل كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الفقر في دعائه،فعَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ e كَانَ يَقُولُ:اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ،وَعَذَابِ الْقَبْرِ. [2]
والإسلام عالج مشكلة الفقر بأمرين أساسيين:
الأول:احترامه الكرامة الإنسانية.
الثاني:سَنّه لمبادئ التكافل الاجتماعي.
أما احترامه الكرامة الإنسانية فلأنه سوّى بين جميع الأجناس والألوان والطبقات في الاعتبار والكرامة الإنسانية،وإذا كان لا بد من المفاضلة فلتكن بالتقوى والإنتاج والعمل الصالح..
والمبدأ الذي طبعه الإسلام في ضمير الزمان إلى يوم القيامة قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات
ولأنه لم ينظر إلى الصور والأجسام،وإنما جعل النظرة إلى القلوب والأعمال،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ e:إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ،وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.[3]
ولأنه رفع من قدر الضعفاء والفقراء،واعتبر إغضابهم وتحقيرهم إغضاباً للرب سبحانه،فقد روى مسلم عَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ سَلْمَانَ،وَصُهَيْبًا،وبِلاَلاً كَانُوا قُعُودًا فِي أُنَاسٍ،فَمَرَّ بِهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَقَالُوا:مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا بَعْدُ،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:أَتَقُولُونَ هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهَا ؟ قَالَ:فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ e،فَقَالَ:يَا أَبَا بَكْرٍ،لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ،فَلَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ،لَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ،فَقَالَ:أَيْ إِخْوَتَنَا لَعَلَّكُمْ غَضِبْتُمْ،فَقَالُوا:لاَ يَا أَبَا بَكْرٍ،يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ.[4].
وأما سنّه لمبادئ التكافل الاجتماعي فلا شك أن الإسلام سنَّ من مبادئ التكافل في حل مشكلة الفقر ما يعتبر من أرقى وأسمى ما وصل إليه الجهد البشري في العصر الحديث.
وإليكم بعض هذه اللمحات في معالجة الإسلام لمشكلة الفقر في المجتمع:
أنه شرع بيت مال للزكاة تتولاه الدولة المسلمة،وجعل مصارفه على المستحقين من الفقراء،والمساكين وأبناء السبيل،والمديونين،وتحرير الأرقاء..قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (60) سورة التوبة
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى اعْتِرَاضِ المُنَافِقِينَ الجَهَلَةِ،وَلَمْزَهُمُ النَّبِيَّ الكَرِيمَ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ ( أَمْوَالِ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ )،بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الذِي قَسَّمَهَا،وَبَيَّنَ حُكْمَهَا،وَتَوَلَّى أَمْرَهَا بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ،وَلَمْ يَكِلْ قِسْمَتَهَا إِلَى أَحَدٍ غَيْرِه،فَجَزَّأَهَا لِهَؤُلاَءِ المَذْكُورِينَ فِي الآيَةِ .وَهُمْ:
الفُقَرَاءَ - وَهُمْ مَنْ لَهُمْ مَالٌ قَلِيلٌ دُونَ النِّصَابِ أَيْ أَقَلَّ مِنْ 12 دِينَاراً .
المَسَاكِينَ - وَهُمُ الَّذِينَ لاَ شَيْءَ لَهُمْ،وَهُمْ لاَ يَجِدُونَ غِنىً يُغْنِيهِمْ،وَلاَ يُفْطَنُ إِلَيْهِمْ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ،وَلاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئاً .
العَامِلُونَ عَلَيْهَا - وَهُمْ السُّعَاةُ وَالْجُبَاةُ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَكُونُوا مِنْ أَقْرِبَاءِ الرَّسُولِ e،لأنَّ أَقْرِبَاءَ الرَّسُولِ لاَ تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ .
المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ - وَهُمْ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ تَأَلُّفاً لِقُلُوبِهِمْ،فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَي لِيُسْلِمَ،وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَي لِيَحْسُنَ إِسْلاَمُهُ،وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَي لِيَجْبِيَ الصَّدَقَاتِ مِمَّنْ يَلِيهِ .
الرِّقَابِ - هُمُ العَبِيدُ المُكَاتَبُونَ الذِينَ يُرِيدُونَ أَدَاءَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَرِيضَةٍ لإعْتَاقِهِمْ ( أَوْ تَعْنِي صَرْفَ جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ فِي إِعْتَاقِ رِقَابٍ ) .
الغَارِمُونَ - كَمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً،أَوْ ضَمِنَ دَيْناً فَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ فَأَجْحَفَ بِمَالِهِ،أَوْ غَرِمَ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ،أَوْ فِي مَعْصِيةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا،فَهَؤُلاَءِ يُدْفَعُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ .
فِي سَبِيلِ اللهِ - هُمُ الغُزَاةُ المُجِاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ،أَوْ مَنَ أَرَادَ الحَجَّ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ .
أَبْنَاءِ السَّبِيلِ - هُمُ المُسَافِرُونَ المُجْتَازُونَ فِي بَلَدٍ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى سَفَرِهِمْ،وَلاَ يَتَيَسَّرُ لَهُمْ إِحْضَارُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ بَلَدِهِمْ،فَيُعْطَوْنَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مَا يَكْفِي لِنَفَقَتِهِمْ .[5]
وروى الطبراني عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي الآخِرَةِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ e:إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الَّذِي يَسَعُ فُقَرَاءَهُمْ،وَلَنْ تُجْهَدَ الْفُقَرَاءُ إِذَا جَاعُوا وَعَرُوا إِلَّابِمَا يُضَيِّعُ،يَصْنَعُ،أَغْنِيَاؤُهُمْ،أَلا وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحَاسِبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِسَابًا شَدِيدًا،ثُمَّ يُعَذِّبَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا "[6].
أنه لم يعتبر المسلم مسلماً إذا بات شبعان،وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به،فعن أَنَسَ بِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ[7].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُسَاوِرِ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ yوَهُوَ يُبَخِّلُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -e- يَقُولُ :« لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الذي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ ».[8]
بل اعتبر إسعافه وإدخال السرور عليه من أحسن القربات،وأفضل الأعمال،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن حَسَنِ بن حَسَنٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:" إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ "[9]..
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ.[10]
وعن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ؛قَالَ :قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ .وَقِيلَ لَهُ:أَيُّ الدُّنْيَا أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ:الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ .وَكَانَ إِذَا حَجَّ أَخْرَجَ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ إِلَى الْحَجِّ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،فَقَالَ:أَعْرِضُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .وَكَانَ يَحُجُّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،فَقَالَ:هُوَ أَقْضَى لِلدَّيْنِ .[11]
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:مَنْ كَانَ وَصْلَةً لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ فِي مَبْلَغِ بِرٍّ , أَوْ إِدْخَالِ السُّرُورِ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ[12]
أنه جعل إسعاف الجائع والمحروم في وقت الشدة من أهم الواجبات،فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ،وَأَنَّ النَّبِىَّ - e - قَالَ « مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ،وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ » .وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِىُّ - e - بِعَشَرَةٍ،قَالَ فَهْوَ أَنَا وَأَبِى وَأُمِّى،فَلاَ أَدْرِى قَالَ وَامْرَأَتِى وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ .وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِىِّ - e - ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ،ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِىُّ - e - فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ،قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ - قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِىءَ،قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا .قَالَ فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ،فَجَدَّعَ وَسَبَّ،وَقَالَ كُلُوا لاَ هَنِيئًا .فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا،وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا .قَالَ يَعْنِى حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ،فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِىَ كَمَا هِىَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا .فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِى لَهِىَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ .فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ - يَعْنِى يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً،ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِىِّ - e - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ،وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ،فَمَضَى الأَجَلُ،فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً،مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ،اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ،أَوْ كَمَا قَالَ[13] . .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ e إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ،قَالَ:فَجَعَلَ يَضْرِبُ يَمِينًا وَشِمَالاً،فَقَالَ النَّبِيُّ e:مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ،وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ زَادَ لَهُ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنْ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ.[14].
أنه أوجب على الحاكم أن يهيئ سبيل العمل لكل من كان قادراً عليه،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ e يَسْأَلُهُ،فَقَالَ:" أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ " قَالَ:بَلَى،حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ،وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ،قَالَ:" ائْتِنِي بِهِمَا "،قَالَ:فَأَتَاهُ بِهِمَا،فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ e بِيَدِهِ،وَقَالَ:" مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ " قَالَ رَجُلٌ:أَنَا،آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ،قَالَ:" مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ،أَوْ ثَلَاثًا "،قَالَ رَجُلٌ:أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ،وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ،وَقَالَ:" اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ،وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ،"،فَأَتَاهُ بِهِ،فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ e عُودًا بِيَدِهِ،ثُمَّ قَالَ لَهُ:" اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ،وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا "،فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ،فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ،فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا،وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e:" هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ:لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ،أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ،أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ "[15]
إنه سنّ قانون التعويض العائلي لكل مولود يولد في الإسلام سواء أكان المولود ابناً لحاكم أو موظف أم كان ابناً لعامل أو سوقة..فعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:كَانَ عُمَرُ لَا يَفْرِضُ لِلْمَوْلُودِ حَتَّى يُفْطَمَ،قَالَ:ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى:لَا تَعْجَلُوا أَوْلَادَكُمْ عَنِ الْفِطَامِ ؛فَإِنَّا نَفْرِضُ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ،قَالَ:وَكَتَبَ بِذَلِكَ فِي الْآفَاقِ بِالْفَرْضِ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ "[16]
وعَنْ أَبِي قَبِيلٍ،قَالَ:كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ،فُرِضَ لَهُ فِي عَشَرَةٍ،فَإِذَا بَلَغَ أَنْ يُفْتَرَضَ أُلْحِقَ بِهِ،فَلَمَّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَفْرَدَ الْمَوْلُودَ،وَجَعَلَ ذَلِكَ لِلْفَطِيمِ،فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَطَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ ذَلِكَ كُلَّهُ،إِلَّا لِمَنْ شَاءَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:قَوْلُهُ:أُلْحِقَ بِهِ يَعْنِي فِي الْفَرِيضَةِ،وَقَوْلُهُ:إِذَا وُلِدَ الْمَوْلُودُ فُرِضَ لَهُ،هُوَ رَأْيُ عُمَرَ الْآخِرُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ "[17]
وعَنْ أُمَيَّةَ بْنِ يَزِيدَ،قَالَ:سَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:أَنْ يَفْرِضَ لِابْنٍ لِي،فَقَالَ:" لَوْ كُنْتُ أَفْرِضُ لِابْنٍ لِي مِثْلَهُ فَرَضْتُ لِهَذَا " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:لَا أَعْرِفُ لِهَذَا وَجْهًا،إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فُطِمَ،لِأَنَّ هَذَا الْمَعْرُوفُ مِنْ رَأْيِهِ .وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْأَوَّلُ:أَنْ لَا يَفْرِضَ لِلرَّضِيعِ حَتَّى يُفْطَمَ،ثُمَّ تَرَكَهُ وَفَرَضَ لِكُلِّ مَوْلُودٍ .وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ،وَهُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ،فَأَرَاهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ مَا دَامَ رَضِيعًا،فَإِذَا صَارَ إِلَى الْفِطَامِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ،وَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا إِلَّا لِذَرَارِيِّ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ الَّذِينَ وَصَفْنَا حَالَهُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ،إِنَّمَا هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ "[18]
هذا عدا عن التربية الوجدانية التي يغرس الإسلام جذورها في قلوب المسلمين،وفي أعماق مشاعرهم،وحنايا ضمائرهم..ليندفع الجميع إلى تحقيق التعاون،والتكافل،والإيثار عن رغبة وإيمان،وطواعية واختيار..
والواقع التاريخي أكبر شاهد على ما نقول..وإليكم بعض النماذج في تكافل المجتمع المسلم،وفي تعاطفه وتراحمه وتعاونه:
قال محمد بن إسحاق:كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم،فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به.
ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل.
وقيل:إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات.
ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فبكى ابن أسامة فقال له:ما يبكيك؟ قال:عليَّ دين،قال:وكم هو؟ قال:خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال:هي عليَّ.[19]
وكَانَ اللَّيْثُ يَسْتَغِلُّ عِشْرِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ،وَقَالَ:مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ زَكَاةٌ قَطُّ.
وَأَعْطَى اللَّيْثُ ابْنَ لَهِيْعَةَ أَلْفَ دِيْنَارٍ،وَأَعْطَى مَالِكاً أَلْفَ دِيْنَارٍ،وَأَعْطَى مَنْصُوْرَ بنَ عَمَّارٍ الوَاعِظَ أَلْفَ دِيْنَارٍ،وَجَارِيَةً تَسْوَى ثَلاَثَ مائَةِ دِيْنَارٍ.
قَالَ:وَجَاءتِ امْرَأَةٌ إِلَى اللَّيْثِ،فَقَالَتْ:يَا أَبَا الحَارِثِ،إِنَّ ابْناً لِي عَلِيْلٌ،وَاشْتَهَى عَسَلاً.
فَقَالَ:يَا غُلاَمُ،أَعْطِهَا مِرْطاً مِنْ عَسَلٍ.وَالمِرْطُ:عِشْرُوْنَ وَمائَةُ رَطْلٍ.
وَعَنِ الحَارِثِ بنِ مِسْكِيْنٍ،قَالَ:اشْتَرَى قَوْمٌ مِنَ اللَّيْثِ ثَمَرَةً،فَاسْتَغْلَوْهَا،فَاسْتَقَالُوْهُ،فَأَقَالَهُم،ثُمَّ دَعَا بِخَرِيطَةٍ فِيْهَا أَكْيَاسٌ،فَأَمَرَ لَهُم بِخَمْسِيْنَ دِيْنَاراً،فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الحَارِثُ فِي ذَلِكَ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ غَفْراً،إِنَّهُم قَدْ كَانُوا أَمَّلُوا فِيْهَا أَمَلاً،فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعَوِّضَهُم مِنْ أَمَلِهِم بِهَذَا.[20]
وكان عبد الله بن المبارك الإمام الكبير المحدّث كثير الصدقات،وخرج مرة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك،وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم،فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار،فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة،فقالت:أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار،وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة،وقد حلت لنا الميتة منذ أيام،وكان أبونا له مال فظلم وأخذ ماله وقتل.
فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله:كم معك من النفقة ؟
قال:ألف دينار.
فقال:عدَّ منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي،فهذا أفضل من حجنا في هذا العام،ثم رجع.[21]
ويوم تتضافر جهود الدولة،وجهود المجتمع،وجهود الأفراد في حل مشكلة الفقر،لا يبقى في المجتمع الإسلامي فقير ولا محتاج،وتنعم الأمة الإسلامية بظلال الأمن،والرفاهية،والتكافل والاستقرار..ويتحرر أبناء المجتمع من كل العوامل الإجرامية،والانحرافات النفسية..ونرى بأم أعيننا راية العزة الإسلامية ترفرف في علياء المجد والكرامة،ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.[22]
[1] - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ (6336 ) حسن لغيره
قَالَ الشَّيْخُ ( الكلاباذيُّ)رَحِمَهُ اللَّهُ:يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ كُفْرَ النِّعْمَةِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ لَا كُفْرَ الْجُحُودِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ،وَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ،وَالطَّلَبِ مِنْهُ،وَهُوَ حِلْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ،وَزِيُّ الْأَصْفِيَاءِ،وَشِعَارُ الصَّالِحِينَ،وَزِينَةُ الْمُؤْمِنِينَ،فَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ:" إِذَا رَأَيْتَ الْفَقْرَ مُقْبِلًا فَقُلْ:مَرْحَبًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ " . وَرُوِيَ:" أَنَّ الْفَقْرَ أَزْيَنُ بِالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْعَوَارِ الْجَيِّدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ "،وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ،غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مُؤْلِمٌ،شَدِيدُ التَّحَمُّلِ،فَقَالَ:" كَادَ "،يَكْفُرُ نِعْمَةَ الْفَقْرِ لِثِقَلِ تَحَمُّلِهَا عَلَى النُّفُوسِ . بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (42 )
[2] - صحيح ابن حبان - (3 / 303) (1028) صحيح
[3] - صحيح مسلم- المكنز - (6708 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 120) (394)
[4] - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 885)(20640) 20916- وصحيح مسلم- المكنز - (6568 )
[5] - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1296)
[6] - المعجم الصغير للطبراني - (1 / 275)(453) مرفوعاً وموقوفاً والموقوف أشبه
يجهر:أى بالسؤال أو السرقة
[7] - المعجم الكبير للطبراني - (1 / 314) (750) صحيح لغيره
[8] - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 3) (20160) صحيح
[9] - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 141) (2665) حسن لغيره
[10] - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 284) (10916 ) حسن لغيره
[11] - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 30) (1180 ) صحيح
[12] - مسند الشاميين 360 - (1 / 40)(28) حسن لغيره
[13] - صحيح البخارى- المكنز - (602 ) -جَدع:دعا بقطع الأنف -الغنثر:الثقيل الوخم
[14] - صحيح مسلم- المكنز - (4614 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 238)( 5419)
[15] - سنن أبي داود - المكنز - (1643) حسن
[16] - الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (500 ) ضعيف
[17] - الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (514 ) حسن مرسل
[18] - الْأَمْوَالُ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ (513 ) حسن
[19] - البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (10 / 212)
[20] - سير أعلام النبلاء (8/149)
[21] - البداية والنهاية لابن كثير (ج/ص:10/192)
[22] - من أراد المزيد في معالجة الإسلام للفقر فليرجع إلى كتاب (التكافل الاجتماعي في الإسلام) لعلوان

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال