حركتْ السيارة بنا وتحركتْ عيناي الساهرتان متحسستين هجعة الأهل والأصدقاء بنتوءات قبورهم التي مسحّتْ حتى ساوت الأرض، بفعل الليالي وانشقاق السماء، وغمغمة الريح.
تخطفني من شرودي انكفاءات السيارة على الجانبين، إذ تهوي إطاراتها، بغتةٌ، في الحفر المغمورة بينما العجوز ذو العين البيضاء، المجاور للسائق، يشرع نافذته، تاركاً الهواء البارد يمعن داخل صدره المفتوح الأزرار، كاشفاً عن فانيلة بنّية، فاضحاً ارتجافه، إذ يرتفع، عميقاً، صدره، وينخفض ثانية، بآهات طويلة، وعينين ذابلتين، هل يخشى طرقات الموت المباغتة؟ يا أبي، آن أن تلمّ العتمة في عمق محطة الوقود شتاتكم، أوقات العصاري، لحظتها، تكون بهيّاً، مطلقاً للسانك مداه الذي لا يحد، فتحكي لهم عن الجوع والفقر، والحرب، والسرقات الصغيرة، وأسفارك المباغتة، لكنك لا تحكي لهم أبداً عن مرضك الطويل، إذ تضم أنحاء أسفل بطنك بيدك، وتشهق بغتةٌ من شدة الألم الذي يعتريك، وتقنعهم، بعدها، ببساطة وهدوء، أن لا شيء ينتابك، حين تطلق، مباشرة بعد وهج آلامك، ضحكة عالية، هكذا لا يستطيع أحد أن يقبض على حالتك، ولا حتى أمي، إذ كنت في دقائق يومك تنقلب من حزن طاغ، إلى ضحكات عالية، وصهيل يرجّ أنحاء ونوافذ البيت:
أدرت رأسي، مرعوباً، للخلف، فلمحت من بين الحصوات البيضاء الصغيرة المنثورة فوق القبور، أعشاباً خضراء، ناعمة، تهتز رؤوسها، كأنما تحكي شيئاً وهي تروغ بخضرتها عن جنون قطرات المطر الساقطة، إذ تجلدها. ثمة في البعد جسدٌ ناحل وطويل يشبه أبي كثيراً، أراه يمشي بخطى طائرة مع الآخرين صوب حائط المقبرة. عدلتُ رأسي أماماً، وأقفلت عينيّ براحتي فوراً، لكنني لم أستطع أن أستمر كذلك طويلاً، وأن أتغافل ذلك اللهاث الساخن الذي يشفّ حول أذني، لم يكن باستطاعتي أن أتجاهل أكثر من ذلك، وأنا أشعر بالبلل يتخلل نسيج ثوبي حتى يمسّ جلدي، لتسري فيّ رعدة خفيفة، جعلتني، رغم ارتباكي، التفت فوراً إلى الوراء، فأراه في الجزء الخلفي من السيارة مكدوداً يلمّ نحوله لصق الزجاجة الجانبية، بشعيرات رأسه البيضاء المبتلّة، وشعيرات خفيفة أيضاً تثنّت بفعل المطر على سطحي يديه اللتين تلمّان أطراف الملاية البنّية من أركانها، فتعلو وردتان صفراوان، وضخمتان. لم يكن ينظر تجاهنا، كل وجهه كان مصوّباً نحو زجاج السيارة الخلفي الذي تتزاحم في رأسه حبّات مطر لاتني أن تنفرط سريعة في خطوط متعرجة.
أرجعتُ وجهي للأمام، إثر تسبيح العجوز ذي العين البيضاء، المسبوق بآهة ثقيلة، أفرغ بها هواء صدره، فتكاثف سريعاً بخارٌ في بطن الزجاج الأمامي، لأسمع بعدها طقطقة عظام جافةً وهي تصطدم ببعضها، ثم تتساقط، وكأنها تسقط من علو شاهق، التفتُ إلى الخلف، فكان أبي يشد الملاية البنيّة من أطرافها الملمومة عالياً، ثم يرخيها ثانيةً نحو سطح الجزء الخلفي من السيارة، كي يدنيها قربه، ويبقيها بين قدميه المحفوفتين بطين طري، لتشتبك عيناي الساهرتان بصخب عينيه، إذ وجدتهما متوقدتين، وصافيتين، يلتمع في بؤبؤيهما بريق هائل، فنقلتُ بصري محدقاً تجاه الملاية حتى كأنما فهم إشارتي، إذ تناهى إليّ صوتٌ راعش وخافت لا يكاد يبين تحت وطأة المطر: "جدّتك". كان يشبه صوته، لكنه أكثر بحّة
ولم أكن أفزع كثيراً، فيما بعد، في البيت، حال تحفّ أذني هزّات باب البيت، وكأنما يد تهشمه أو تحاول ذلك ، فقط أتأكد من باب غرفته إذ ما زال كما تركته موارباً، لأنسحب خفيفاً، على رؤوس أصابعي، تاركاً له فرصة أن يتسلل بهدوء، ثم يتوارى تحت لحافه الأبيض دونما ضجّة.
التسميات
من الحياة