إن الغرب يضغط علينا حتى إنه يكاد يخنقنا. وهو يسحقنا، نحن البدويين المساكين، بتكنولوجياته وآلاته طائراته و»كوموندوهاته». وبعد الغزو الأول، أغرقنا بأوراق عملته وإعلاناته وسلعه. وبعد أن سلبنا كل ما في أراضينا وجيوبنا، ها هو يركز على سلبنا أرواحنا. باسم حقوق الإنسان وحقوق المرأة والديمقراطية المقدسة، يتم فحص وتمحيص كل انحرافاتنا، الحقيقية منها والمفترضة، إلى درجة أصبحنا معها نحس اليوم يأننا مجرد أقزام أمام هذا الكيان المتفوق الذي لا يكف عن مدح نفسه ولا يكف عن تلقيننا الدروس طيلة النهار.
لقد ترك غرب الغزاة الدمويين مكانه لغرب التبادل الحر والليبرالية. وطفق يعظ العالم ويعلمه لغة العقل الحديث والحكامة، وينصب نفسه، بنفس المناسبة، بطلا مناصرا لحب البشر وكرامتهم. يدعي حبه لجيرانه وينصب نفسه مدافعا عن الذين يتعرضون للإذلال من طرف الطغاة، على الرغم من كونه هو الذي نصبهم،
لكن هذا الغرب يعاني من مشكل أساسي يتمثل في كونه يكشف دائما في نهاية المطاف عن وجهه الحقيقي، وعندها يشهر أسلحته ويشرع في القصف والقتل بلا رحمة ولا شفقة.
يقولون إنها مجرد أخطاء، لكنها أخطاء أكثر من اللازم. إنها في الواقع هجمات مخطط لها تتم بدم بارد، وتعتبر جزءا لا يتجزأ من النظام الغربي. وهذا الأخير عبارة عن آلة حربية قاسية، مدربة على سحق كل من يعارض نهمها.
لقد سبق لماركس، هو مرة أخرى، أن أشار إلى هذا رغم اعترافه بانبهاره بالقدرات الابتكارية للرأسمالية.
فهذا النظام كان منذ ولادته غولا لا حد لنهمه. فهذا ما سماه التكديس البدائي لرأس المال.. نعم لقد انبثقت الرأسمالية الحديثة و»الديمقراطية» من النهب والسلب والقتل والعبودية.
نعرف جميعا ذلك الحوار الذي تخيله غوته بين المريد وشيخه، إذ يقوم هذا الأخير بدفع المريد إلى تتبع خيوط ثروة أبيه ليصل إلى أن مصادرها تحوم حولها شكوك كثيرة.
منذ ذلك الزمان، استطاعت الرأسمالية أن تخلع على نفسها رداء حقوق الإنسان التي تعمل على بيعها في كل مناطق العالم حتى تنسي الناس في فضائحها. وهي تكشر عن أنيابها بين الفينة والأخرى مع الحرص دائما على جعل الآخرين بدون أسنان.
العبودية.. إبادة سكان أمريكا الأصليين.. الفاشية.. فيتنام.. العراق.. فلسطين.. هذه هي الوجوه البشعة للرأسمالية. إنه تاريخ دائم التكرار.
إن الرأسمالية لم تستطع في نهاية الأمر التخلص من أًصولها المتوحشة، ومن كون هذه الأصول هي البذرة بينما الليبرالية والديمقراطية «الزوان». لقد ظل هذا النظام اقتصادا خالصا يستعيد أصله «الغولي» كلما أخفق في تحقيق الربح.
وهذا ليس غريبا في واقع الأمر. فالاقتصاد الأوربي كان الأول، في تاريخ البشرية، الذي لم تكن وراء توسعه سوى الحوافز الاقتصادية.
في البدء حاول هذا النظام أن يخلق مسافة بينه وبين طبيعته العميقة، لكن هذه الأخيرة أعلنت عن نفسها في علاقته بالآخر، وفي حبه للمسيح خلال الحروب الصليبية قبل أن يعتنق حقوق الإنسان والمواطن.
واليوم هاهو هذا النظام، الذي نسي طبيعته الشمولية القائمة على المال، يهاجم الثقافات والحضارات الأخرى رغم أنها لم تقم قط على مبدأ الربح. وهو حاليا يتقدم مقنعا إلى حقله المفضل، أي الحقل الثقافي حيث يزعم إعطاء دروس للشعوب الأخرى. أما الشأن الاقتصادي، حيث تكمن أسرار هذا النظام، فقد تمت تبرئته من كل تهمة وترك بين أيدي رجال المصارف. لكن الحقيقة أن الوحش مختبئ في ثنايا هذا الشأن الاقتصادي! ويخرج إلى الملأ ويظهر كل ما يستطيع من عنف عندما يحس بأنه مهدد.
التسميات
أمريكا