هزائم الامبراطورية الأمريكية في بلاد الشرق.. التفكك والانفصال في بعض الولايات وعدم اقتناعها بنظام الفيدرالية المترهلة وبرامجها الاقتصادية

هل كانت فترة حكم جورج بوش الابن (2001-2009) هي البداية الفعلية لانهيار الإمبراطورية الأمريكية وما شهدته من مسمى الحرب على الإرهاب عقب تفجيرات 11/9 الشهيرة 2001 ؟ هل كان دخول الولايات المتحدة الأمريكية في حربين منفصلتين ومتباعدتين على مستوى العمليات في كل من العراق وأفغانستان مؤشرا على التقهقر العسكري للقوة الأولى على الأرض مع ضراوة المقاومة في البلدين؟
هل كان الانهيار الاقتصادي العالمي الذي بدأ من بلاد العم سام صدفة أم نتيجة طبيعية للتصرفات المالية الطائشة (أزمة الرهون العقارية) التي لا تعبأ إلا برفاهية المواطن الأمريكي مما جلب عليها وعلى العالم أزمة تهدد بيع دولا كاملة في المزاد العام العالمي؟
وآخر تساؤلاتنا هل يكون تولي الرئيس باراك أوباما هو بمثابة العد التنازلي على أفول أمريكا كقوة عالمية وحيدة مما جعل العالم يحيا ما يزيد عن عقدين كاملين مرحلة القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والتي تعد السابقة الأولى منذ بداية ما يعرف بموازين القوى في تاريخ البشرية؟ كل علامات الاستفهام هذه ما كان لها أن تطفو على السطح مرة أخرى إلا بعد ما رأينا من تحورات وتحولات طفقت أن توضح وترسخ إلى حقبة جديدة في تاريخ العالم في القرن الــ 21 الذي صنف على أنه قرن أمريكي محض، ولكن ما حدث من تراجعات وهزائم لحقت بأمريكا كان الاستنتاج الصحيح لحصيلة مقدمات تتطابق مع قوانين المنطق ورؤية العقل السليم ، العراق والكذبة التي قتلت صاحبها، نعم يمكن تلخيص المغامرة الفاشلة التي قام بها الجمهوريون المقامرون بأنها أكبر كذبة عرفها التاريخ الحديث والتي أدت إلى التدخل الأمريكي غير الشرعي في العراق وعملت على سقوط نظام صدام حسين البعثي بحجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي لم يكن لها وجود وفتحت في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي مكونات معادلة جديدة كل مركباتها تهدف إلى إضعاف العراق وتمزيقه وسرعان ما تحقق الغرض الصهيوجمهوري المستند على وحي إلهي كاذب من قِبل الرئيس الموحى إليه جورج دبليو بوش فرأينا كيف تكالب جيران العراق عليه وصار في قبضة ايران والتي أحكمت سيطرتها على حلمها الأسطوري هو السيطرة على مقاليد الحكم في عاصمة الرشيد ولو بالوكالة المباشرة.
وبعد ما شاهدنا من عملية مخاض سياسي عثر بكل المقاييس داخل العراق عنوانه اليومي التفجيرات في كل مكان والانتهاكات الحقوقية وعلو سقف المذهبية في كل شبر على أرض الرشيد بداية من القتل بناءً على الهوية ثم سجن أبو غريب والاغتصابات المخزية، وشركة بلاك ووتر والتلاعب في مؤسسات الدولة والتي شارك فيها وقص شريطها بول بريمر المندوب السامي الأمريكي، ووصولا لرئيس دولة عربية غير عربي، ولكن شيئا ما يبقى من محصلة المغامرة الأمريكية في بغداد وما صاحبها من مغامرة أخرى فوق الأراضي الأفغانية والتي يمكن لنا أن نسميها 'لعنة الجغرافيا' في كل من العراق وأفغانستان، إذن سقطت وغاصت قوائم الجيش الأمريكي في العراق الذي استحال إلى مقاومة جبارة في كل تكبد الجيش الغازي خسائر فادحة بداية من التفجيرات والقتل المباشر وغير المباشر للجنود الأمريكيين حتى فتحت واشنطن أسطولا طائرا سريا للنعوش لأجساد مقاتليها، ناهيك عن التكلفة المالية القاسية، ولما كان الحال يمشي من سيئ إلى أسوأ في العراق كانت الاتفاقية الأمنية المشتركة التي أبرمتها الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن للخروج من العراق الذي خسر كثيرا ولكن كشف مدى هشاشة الروح المعنوية والقتالية للجندي الأمريكي وأظهر أيضا ضعف التنسيق بين الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا بداية من حكومة الذيل لرئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير وقت شن الحرب الذي خضع للمحاكمة على خوضه حرب العراق، وبعد الهروب الكبير من العراق جاء الرئيس أوباما ليزيد عدد الجنود في أفغانستان كي يكمل حربا كانت هي ورقة التوت الحقيقية التي عرت الجسد الأمريكي وبينت ما فيه من تشوهات وتقرحات، وتثبت التجربة الميدانية أن تحالف أمريكا مع حكومات البلاد التي تحارب فيها أو تنطلق منها دائما ما يضعف هذه الحكومات ويجعلها محل استهجان وخير مثال الرئيس السابق لباكستان برويز مشرف (2001-2008)، أما الرئيس الأفغاني حامد كرزاي فله العديد من الصفحات الباهتة والبعض يراها سوداء تماما بداية من التعامل المزدوج بين الإدارة الأمريكية من جهة و شعبه والحركات المقاومة للتواجد الأمريكي من جهة أخرى، وفي مقدمتها حركتي طالبان والقاعدة، والاستدراك الواجب الوقوف عليه هو كيفية التعامل والتعاطي الأمريكي في مسرح العمليات على الأراضي الأفغانية وتلك الحرب التي دخلتها أمريكا ولم تضع في حسبانها تجربة الاتحاد السوفييتي التي رمت به هي في أتون الحرب مع القوات الأفغانية ولكن هي عقلية الرجل الأمريكي الذي يتصور نفسه فوق كل قوانين العالم ونواميس الطبيعة، فمنذ إعلان الحرب على القاعدة والبحث عن زعيمها أسامة بن لادن ولم تحقق أمريكا وحلفاؤها أي قدر من التقدم أو النجاح على الأراضي الأفغانية سوى العديد من القتلى من المدنيين العزل نتيجة لقصف غاشم لا يفرق بين طفل وامرأة أو مراسم زفاف، وتثبت كل يوم المقاومة الشرسة لحركة طالبان بأن قوات التحالف في طريقها إلى التصدع ما لم تكن تصدعت بالفعل وكان آخر ما رأيناه التصريحات التي أدلى بها قائد القوات الأمريكية الجنرال ستانلي ماكريستال في أفغانستان مع مجموعـــــة من مستشاريه الذين سخروا من كبار الإدارة الأمريكية ولم يستثن ماكريستال رئيس البيت الأبيض باراك أوباما مرورا بنائبه جو بايدن ووصولا إلى المبعوث الخاص لأفغانستان ريتشــــارد هولبـــروك تلك التصريحات التي يرى فيها بعض المحللين السياسيين بأنها تنذر بدلالات خطيرة وهي التدخل السافر من العسكريين في الشــــؤون الســــياسية وخاصة الشعب الأمريكي يقود معركة مترامية الأطراف ويزداد فيها الضغط الشعبي المناهض لوجود القوات خارج الوطن لعدم تحقق الأهداف المنشودة وارتفاع أرقام الإحصــــائيات التي تعبر عن تراجع التأييد الداخلي وتسرب الملل والتذمر الذي يبدو هي نفس العوامل التي دفعت ماكريســـتال بأن ينتقد السياسة الأمريكية والتي تتقاطع مع عقيدته العسكريــــة التي لا أحد يمكن أن يلومه عليها ولكن على مختلف الظروف يبدو أن لعــــنة الجغرافيا الأفغانية قد بدأت في العمل ضـــــد الجيـــش الأمريكي الذي ما أن يحقق تقــــدم على الأرض سرعان ما يتــــبعه مزيدا من القتلى على الجانبين في الصــــفوف الأمريكية وجنود حلف الناتو.
ويشرح أحد المحللين الاستراتيجيين أن ماكريستال تعمد تلك التصريحات السيئة ضد الإدارة في واشنطن وهو يعلم سلفا بأن الكل سيقرأ جريدة 'رولنغ ستون' كي ينسحب من المعركة التي شعر باستحالة تحقيق النصر فيها لما يلمسه من الاكتئاب والتذمر الذي اعترى جنوده وأن طلب مزيدا من الجنود تم مقابلته بالرفض وأنه تحقق بأن الطبيعة القتالية غير ملائمة جدا على الأرض الأفغانية حتى استخدام الطائرة بدون طيار لم يحقق التقدم المنشود وهو سلاح ذو حدين، كانت كل تلك الأحداث كفيلة بإقالة ماكريستال وتعيين ديفيد بترايوس قائد القوات في العراق، وبين ماكريستال و بترايوس يتبادر السؤال هل يحذو الأخير حذو الأول مرة أخرى حين يرى أن قواته لا تحقق أي انتصارات على الأرض في ظل الكشف عن حقائق عسكرية على أرض المعركة أقل ما فيها محبطة تبعث على اليأس حين تأكد أن كثيرا من الشركات المتعاقدة مع الجيش الأمريكي لتوفير المعدات والمؤن المطلوبة تقوم بدفع رشاوى ومبالغ ضخمة لأناس غير معروفين سوى أنهم قطاع طرق أو كما وصفتهم الصحف الأمريكية بأمراء الحرب وعندهم القدرة على عرقلة أو قطع تلك الإمدادات لتكتشف الإدارة الأمريكية بأن هذه الأموال قد يكون تذهب إلى حركة طالبان وهنا يأتي السقوط المدوي لوكالة المخابرات الأمريكيةCIA التي لم تعرف هوية من تتعامل معها شركاتها، ومن يدقق في الأمور للوضع الأمريكي داخل أفغانستان يجد أمريكا تنازلت عن الكثير من مبادئها فها هي الولايات المتحدة تتفاوض بل تتعاقد مع قطاع الطرق وقد يكون هم ما تسميهم بالإرهابيين التي لم تستطع جميع وسائل تكنولوجيتها من أقمار صناعية وأجهزة اتصال تقنية من معرفة كنه من تتعامل معها تلك الشركات الأمريكية، ثم لا أحد يمكن أن يغفل العامل النفسي على الجنود والضباط الأمريكان الذين يعانون على مدار الساعة من الطبيعة الوعرة للأراضي الأفغانية مما زاد حالات الاكتئاب النفسي بين صفوف الجنود وإقبال العديد منهم على الانتحار.
مما استوجب استحداث مصطلح 'النيران الصديقة' وكي لا نترك القائد الجديد للقوات الأمريكية في أفغانستان ديفيد بترايوس الذي نراه ينوي توسيع مساحة القصف واجتياح المناطق المتنازع عليها مع قوات طالبان، في المقابل يرى بايدن إمكانية استمرار الحرب وتكثيف الهجمات باستخدام الطائرة بدون طيار والاعتماد على القوات الخاصة الأمريكية وهذا ما تعارض تماما مع رؤية الجنرال ماكريستال الذي يقف على أرض الواقع ويتوصل إلى الحلول الإستراتيجية العسكرية التي تعكسها أرض الميدان التي طالب بها إدارة أوباما من سرعة توفير 40 ألف جندي للسيطرة على المساحات الواسعة وتدريب القوات الأفغانية، وأهم ما كان يميز ستانلي ماكريستال هو حرصه وقلقه على الأفراد المدنيين ومحاولة التقرب إلى كبار العشائر الذي بات ما يعرف بخطة 'بفك الارتباط' بين المواطنين الأفغان وحركة طالبان ويأتي على النقيض بترايوس الذي يريد أن يتحرر من المناطق التي لم يستهدفها سابقه والتي يسكنها الأهالي وهنا تلوح في الأفق العقيدة الجديدة للجنرال بترايوس الذي يريد أن يحرز تقدما سريعا مما سوف يأتي بنتائج عكسية وخطيرة عليه وعلى حامد كرزاي الرئيس الأفغاني المرتعش الذي يبدو أنه لن يرتاح كثيرا مع الجنرال الجديد لما أبداه من معارضة صريحة لإقالة ماكريستال الذي وصفه بأعظم القادة الأمريكيين في أفغانستان الذي يفسره البعض بأن الجنرال ماكريستال وقف مع كرزاي في الانتخابات ودافع عنه أمام القادة الغربيين الذي انتقدوا سياسة كرزاي ونعتوه بالفساد مثل غوردن براون رئيس وزراء بريطانيا السابق، وعلى أرض الواقع باتت الحرب الأفغانية تصدع الإدارة الأمريكية وتظهر الاختلافات على الملأ وفي وسائل الإعلام وراح الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين يطرحون مصطلح بداية انهيار الإمبراطورية الأمريكية (كتاب 'عالم ما بعد أمريكا' للكاتب فريد زكريا هندي الأصل الذي يدعو العالم أن يتهيأ لمرحلة ما بعد سقوط أمريكا، والكاتب يقول أن باراك أوباما قد التقطت له صورة وهو يقرأ الكتاب) لما تدفعه من فاتورة باهظة الثمن من مليارات الدولارات من دافعي الضرائب الذين يضيقون صبرا من تلك الحرب العقيمة وكشفت تقارير الكونغرس الأمريكي في الأيام الأخيرة بأن الولايات المتحدة الأمريكية تنفق مليوني دولار أسبوعيا في الحرب وأوشك المنتصر فيها يكون حركة طالبان التي تتحكم في حجم العمليات وتسيطر على طرق الإمدادات وكرزاي لا يمثل لهم سوى كيان هش لا يسيطر إلا على مناطق قليلة جدا كل التراجع العسكري والوهن السياسي والسقوط الاقتصادي والصراع الاجتماعي في أمريكا كان مصدره الحملة الفاشلة على أفغانستان التي تشبه حرب الإمبراطورية البريطانية في حربي البوير الأولى (1880-1881) والثانية (1899- 1902)حيث كانتا العنوان العريض على نهاية الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس ومن لا يصدق فالاتحاد السوفييتي السابق في تسعينات القرن الماضي خير دليل على أفغانستان هي أرض تحمل لعنة مصدرها الجغرافيا وتصيب كل متغطرس لا يقرأ التاريخ، وتطالعنا وكالات الأنباء الأفغانية والعالمية في 29 حزيران/يونيوالماضي بأن أولى التصادمات الجديدة استهلها ديفيد بترايوس باقتحام المساجد بالكلاب وانتهاك القرآن الكريم مما جيـــش الجميع غضبا من الشباب الأفغاني، ورجوعا إلى عالمنا العربي مصدر كل الصراعات وصاحب الرقم القياسي في المراهنات السياسية الفاشلة فعليه أن يبحث عن حليف آخر قادم كما فعلت إسرائيل التي سرعان ما طورت علاقاتها مع الصين القوة القادمة المرشحة أن تكون بديلة أو حتى موازية لأن أمريكا دخلت مرحلة الشيخوخة والتفكك والانفصال الذي يلاقي صدى كبيرا في العديد من الولايات الأمريكية التي ما عادت تقتنع كثيرا بنظام الفيدرالية المترهلة وبرامجها الاقتصادية التي فقدت كل عناصر القوة والهيبة بعد الأزمة العالمية الأخيرة رغم الإصلاحات التي يأكل ثمارها الإنفاق العسكري على الحروب الخارجية.
البدري الخولي
 كاتب وصحافي مصري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال