في رواية الكاتب البرازيلي باولو كويلهو، تحت عنوان 'الحاج إلى كومبوستل'، يقوم البطل برحلة شاقة مضنية، عبر جبال إسبانيا الوعرة ومشياً على الأقدام، من أجل العثور على رمح له. لم تكن الرحلة جسدية منهكة فقط، بل كانت أيضاً روحية وفلسفية تحت توجيه وقيادة دليل روحي يساعد البطل ويشجٍّعه على الاستمرار في مسعاه بالرغم من العقبات وذرف دموع اليأس. لكن البطل، وهو يقترب من نهاية رحلته ومن لحظة حصوله على الرٌمح الهدف، يطرح على نفسه فجأة هذا السؤال الذي يلخًّص الكتاب برمًّته. هل كان هدف رحلتي وسًّر القيام بها العثور على الرًّمح المخبًّئ في مكان ما أم كان في الإجابة على سؤال آخر وهو: 'إذا عثرت على الرمح فماذا سأفعل به'؟
لنستعمل تلك القصًّة البسيطة في طرح سؤال على أنفسنا، نحن عرب اليوم. لقد كان في حياتنا رمح مماثل مفقود، فقدناه في تلك اللحظة التاريخية التي جاءت بنظام الملك العضوض في حياتنا السياسية على يد معاوية بن أبي سفيان. فجأة وئدت المحاولات المتواضعة السابقة في أن يكون للناس، للأمٌّة، دور في اختيار من يحكمٌّها. في ذلك اليوم أضاعت الأمة رمحها وبدأت مسيرة التفتيش عُّما ضاع، واستمرت خمسة عشر قرناً. مثل رحلة بطل رواية كويلهو كانت رحلتنا شاقة، مليئة بالدموع، مخضبة بالدم، مزدحمة بالنكسات والتراجعات. ولكن بعكس الدليل الروحي الشريف لبطلنا ابتلت أمتنا في رحلتها تلك بالدليل تلو الدليل من فقهاء السًّلاطين وانتهازيٌّي السلطة والمال ليبعدوها عن لحظة العثور على هدفها الذي تفتش عنه.
اليوم تقترب الأمة كثيراً من الوصول إلى ذاك الرُّمح الرًّمز الذي ضاع، حكم الأمة لنفسها من خلال نظام ديمقراطي سياسي ـ اقتصادي ـ اجتماعي ـ قانوني عادل لكنها، وقبل أن تعثر عليه وتتحسًّسه في يدها، تحتاج أن تطرح على نفسها السؤال الذي طرحه بطلنا: وماذا سأفعل بالديمقراطية؟ هذا الرمح من سيهزم، ولمن سينتصر، ولأي هدف سيتوجه، ومن هي اليد التي ستحمله واليد التي ستبقيه في غمده كالمشلول العاجز؟
هذه المماثلة بين قصًّة خيالية وبين واقع أمًّة لها ما يبرٍّرها، وهي تطرح سؤالاً سياسياً بالغ الأهمية. ذلك أن القوى السياسية المناضلة من أجل الديمقراطية تحتاج أن تقرًّر فيما إذا كان من الأفضل الوصول إلى الديمقراطية، أي العثور على الرمح، أولاً ثم طرح باقي الأسئلة المتعلقة باستعمالات الديموقراطية وإلى ما يجب أن توصلنا إليه، أم أنها تريد أن تفعل مثل ما فعل بطل روايتنا ؟ كلا الموقفين يحملان مشاكل عملية في مسيرة العرب السياسية ويحتاجان إلى تأمًّل عميق.
أهمية هذين السؤالين تكمن فيما حلٍّ برمح الديمقراطية في الواقع البشري. ففي بلاد العرب قدُّمت الديموقراطية كرمح خشبي متعفٍّن للدٍّفاع عن ولتثبيت الإنقسامات الدينية والمذهبية والقبلية والعرقية ولحماية عهد التوزيع الجائر للثروة والنفوذ والوجاهة والامتيازات. وفي بلاد 'العراقة' الديمقراطية الغربية أصاب الصًّدأ ذلك الرمح وماعاد بقادر على أن يحمي الفقراء والمهمًّشين من أوبئة البطالة وأمراض الصحة والجهل والحرية والإدمان والإعلام المزيُّف والاستهلاك البليد والأزمات الاقتصادية المجنونة.
لقد سارت البشرية عبر القرون في مسيرة حجٍّ شاق بحثاً عن رمح ديمقراطيتها. البعض فرح برمحه الخشبي والبعض يقبض على رمح صدئ. والجميع خدع بأن الهدف من تلك الرحلة هو العثور على رمح الديمقراطية. أيُّاً تكن حالته وأياً تكن كفاءته. لكن المطلوب أكثر من ذلك: ماذا سنفعل بذلك الرمح.
لعلُّ الجواب يكمن فيما قاله أحدهم من أن قدرة الإنسان على العدالة تجعل الديموقراطية ممكنة التحقق، لكن ميل الإنسان لعدم العدالة تجعل الديمقراطية أمراً ضرورياً. إذا لم يكن رمح الديمقراطية في سبيل العدالة فلا حاجة للعثور عليه.
د. علي محمد فخرو
التسميات
عرب