لقد برهنت الانتخابات في العراق وافغانستان وفلسطين وبلدان اخرى على ما اكدته البحوث الاكاديمية حول عدم امكانية تطبيق الديمقراطية في البلدان التي لا تملك الحرية السياسية او الاقتصادية، بل بالعكس تشير هذه البحوث الى ان الديمقراطية في هذه البلدان تأتي مقترنة بنشوب الحرب وانتشار الفوضى.
لا بد من التشديد هنا على ان الديمقراطية المتوفرة في عالمنا اليوم هي ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية الموجودة فقط في البلدان الرأسمالية الغربية، التي تتمتع لا بالحرية السياسية فحسب بل تسيطرعلى خيرات العالم الثالث الخاضع لنفوذها، ثم ان الديمقراطية لا تقتصر على عملية الانتخابات وحدها، بل تعني ايضاً سيادة القانون ومحاسبة المقصرين الحكوميين وانتشار الحقوق المدنية كحرية الكلام والصحافة والاضراب عن العمل الخ.
تؤكد هذه البحوث على قضيتين:
' ' '1 تتوطد الديمقراطية في بلد ما حين تتوفر فيه ثلاثة شروط على الاقل وهي:
أ) يتمتع الشعب فيه بمستوى معاشي عال .
ب) يمتاز الشعب بحالة صحية جيدة.
ج ويمتاز بمستوى ثقافي عال.
قاس الاخصائيون في هيئة الامم المتحدة المستوى المعاشي لشعب ما عن طريق حساب معدل الدخل السنوي للفرد. الا انهم ادركوا ان هذا المعدل لا يضبط درجة رفاه الشعب، ولذلك قرروا سنة 1990 ادخال نسبة التعليم، التي قاسوها بمعدل عدد السنين التي يقضيها الفرد في الدراسةن وكذلك ادخال المستوى الصحي الذي قاسوه بمعدل العمر الذي يعيشه الفرد Life expectancy وتوصــلوا الــى ما سموه بمعـــامل التطــور الانـساني Human Development Index .
لقد قام عدد من الاكاديميين في امريكا، مثل ليبست وبولين وجاكسون، وفي بريطانيا مثل جون ستيفنز في كمبريج، بالدراسة المفصلة لبلدان العالم مستخدمين نظرية الدالات الانشائية Structural FunctionalTheory وتوصلوا الى ان هناك ارتباطاً احصائياً محكماً بين معامل التطور الانساني في بلد ما وبين الديمقراطية.
بالاعتماد على هذه الدراسات لا يمكن تطبيق الديمقراطية في اكثر من 100 بلد في العالم الثالث، حيث يبلغ سكان هذه البلدان ثلثي سكان العالم، ذلك لأن معامل تطورها اقل من 50' ويقل معدل الدخل فيها عن ربع معدل الدخل في العالم كله، في حين أن خط الفقر هو نصف المعدل، بل الاتعس هو أن لهذه البلدان صفات مشتركة اخرى. فمثلاً يزيد التضخم النقدي في كل منها عن 20' والديون المتراكمة عليها عاليةن وهناك عجز كبير في ميزانيتها وفي نسبة صادراتها الى وارداتها. وقد اشار البنك الدولي الى ان 13' من صادرات العالم الثالث خاضعة للعقبات الجمركية. والشيء الذي يجلب الانتباه هو الحروب الاهلية المتفشية في معظم هذه البلدان. والاهم من كل هذا هو انهيار الزراعة الى درجة انها تستورد خبزها، بل يأتيها كمعونة من الولايات المتحدة، وذلك بعد أن سيطرت ست شركات امريكية على 70' من تجارة الحبوب في العالم.
راجع (Pre Release, World Development Movement - 2/11/1996)
تؤكد هذه الحقائق ان الديمقراطية ليست المشكلة الآنية او الرئيسية لهذه البلدان وان وصلتها بمعجزة فانها سوف لا تحل مشاكلها قبل ان تتحرر من سيطرة الشركات الرأسمالية العالمية عامة والامريكية بصورة خاصة.
2 في دراسات مفصلة قام بها عدد كبير من البروفسورية الامريكان المختصين في شؤون السلم والحرب (راجع Theories of War and Peace. The M.I.T. Pre, 1998 ) توصل كل على حدة، بصورة مستقلة عن غيره، الى ان تبني الديمقراطية في البلدان (غير الناضجة)، المقصود في العالم الثالث، تؤدي الى نشوب الحروب الاهلية او المحلية.
فيقدم مانسفيلد من جامعة اوهايو، وسنايدر من جامعة كولومبيا، احصائيات مفصلة للاثبات على ان 'احتمال الحرب في هذه البلدان يزداد بصورة طردية مع الزمن خلال السنوات العشر الاولى من اعلان الديمقراطية، وغالباً ما ينتهي البلد بانتشار الفوضى واضمحلال تأثير الحكومة'. ويؤكدان أن 'مقارنة بالاوتوقراطية فان التحول منها الى الديمقراطية يزيد احتمال الحرب الى اكثر من الضعف...' ثم يقدم الأخصائيان اربعة اسباب لترعرع العنف في ظل الانظمة الديمقراطية الحديثة وهي:
أ ان النخبة من العهد المنقرض تستخدم الدعوات الدينية والقومية لغرض العودة الى الحكم.
ب يجد الحكام الجدد ضرورة التقابل بالمثل، فيبشرون هم ايضاً بالحماس القومي والمشاعر الدينية.
ج صعوبة السيطرة على الجماهير التي تدافع عن النظام الجديد. وكل هذا يحدث الان في العراق مثلاً.
د اذا فشلت الديمقراطية الفتية وعادت الاتوقراطية فانها ترفع من احتمال استخدام العنف، كما حدث في شيلي بعد اسقاط حكومة الليندي.
يتفق كريستوفر لاين، في الكلية البحرية، ويضيف: 'من الخطأ ان تبني الولايات المتحدة سياستها الخارجية على تشجيع الديمقراطية في العالم بغية تجنب الحرب'. ذلك لأن ' تشجيع الديمقراطية في المناطق المتفجرة Volatile ستولد الحروب'.
يذهب ميرشمير، من جامعة شيكاغو، الى ابعد من ذلك ويفند النظرية الداعية الى 'ان الديمقراطيات محبة للسلام بطبيعتها'. ويسطر الادلة على'قيام الدول الديمقراطية بتهديد بعضها البعض خلال العصور'.
تتعقد مشكلة الديمقراطية حين تصبح المسألة القومية عاملاً بارزاً، فيقدم فان ايفرا، من M.I.T. ، مجموعة من النظريات حول العلاقة بين القومية والحرب ويستنتج : ان الخلافات القومية تمنع نضوج الديمقراطية، ذلك لأن 'المشكلة القومية تشجع الحرب.' كما هو الحال في كركوك بالعراق.
هناك عدد هائل من الامثلة التي تؤكد على فشل تطبيق الديمقراطية في البلدان التابعة قبل تحررها. ففي الجزائر، مثلاً، انهارت الحياة سنة 1990 حين فازت جبهة الانقاذ الاسلامية في الانتخابات الاولية، فبدأت الحرب الاهلية، وتدخلت فرنسا والولايات المتحدة وبلغ عدد القتلى اكثر من 60 الفاً وفي فلسطين تحولت الانتخابات الى حرب اهلية بين فتح وحماس، فتشجعت اسرائيل على تقوية مستوطناتها في الضفة الغربية، ثم استخدام الاسلحة المحرمة لتحطيم غزة. استمرت الحرب الاهلية في افغانستان منذ الانتخابات الصورية لحكومة ببراك كمال الموالية للاتحاد السوفييتي سنة 1979. حيث تدخلت الولايات المتحدة مشجعة الكتل الدينية بحجة محاربة الالحاد. وبعد 30 سنة من الحرب لا يمكن معرفة نهايتها في بلد تبلغ الامية فيه 71' ومعدل العمر فيه 44 سنة ومعامل التطور الانساني 32'. اما الانتخابات فانجبت حكومة كرزاي، الذي جلبه الامريكان معهم من هناك، فتفشى الفساد وتجارة المخدرات.
وفي الكونغو تدخلت فرنسا وبلجيكا ثم هيئة الامم المتحدة، بمباركة خروشوف، منذ سنة1960 فتم قتل باتريس لومومبا. وبعد ازاحة الحكم الدموي لمبوتو، بالتدخل العلني للولايات المتحدة، تم تبديل اسم البلد ثانية من زائير الى الكونغو الديمقراطية، الا ان الحرب مستمرة الى امد غير معروف. وكذا الحال مع اندونيسيا بعد التدخل المباشر للمخابرات الامريكية سنة 2000 لازاحة سوهارتو من الحكم، حيث ادت الانتخابات التي تلت الى حرب اهلية بين المسلمين والمسيحيين، والتي توسعت الى ان تمكن الكاثوليك من فصل تيمور الشرقية عن الحكم في جاكارتا.
بعد احتلال العراق في 2003 الح آية الله السيستاني، الذي رفض الجنسية العراقية،على الاسراع في الانتخابات، لكي يثبت ان الشيعة هم الاكثرية. وفي 30/1/2005 جرت الانتخابات في ظل الاحتلال وبالطريقة الامريكية، فتم اعلان الاحكام العرفية وحالة الطوارئ ومنع التجول وغلق الحدود والمطارات وعزل الشعب عن العالم الخارجي، الى درجة امتنع المراقبون الدوليون عن دخول العراق. كما تم كتم اسماء المرشحين ومحلات الاقتراع وتفتيش الناخبين بعد سيطرة 150 الفاً من الجيش الامريكي على الشوارع والمحلات العامة وهلل جورج بوش بانتصار الديمقراطية في العراق. وبالطبع فشلت حكومتا الجعفري والمالكي في جلب الماء والكهرباء الى البلد.
وعلى الرغم من انتخابات 2005 و2010 استمرت عمليات الاختطاف والسجن وانفضحت جرائم الامريكان في ابو غريب والفلوجة وتلعفر والبصرة ومدينة الثورة )الصدر( وتم قتل اكثر من مليون عراقي وترك مليونان البلاد الى الخارج. 'لقد تعلم الشعب معنى الديمقراطية الامريكية حين فشلت الانتخابات الاخيرة في التوفيق بين اطراف حكومة المحاصصة، علما بأن اتباع بريمر في مجلس الحكم مازالوا هم الذين يسيطرون على الكتل المتنافسة، وهم الذين اعادوا العراق الى القرون الوسطى.
يبحث وليام بلوم، الموظف السابق في وزارة الخارجية الامريكية، في كتابه Rougue State, Zed Books 2001، كيف تقوم الولايات المتحدة بالتدخل في الانتخابات التي تجري في مختلف بلدان العالم الثالث ويشرح التدابير التي اتخذتها لفوز القوائم الموالية لها في 20 بلداً، من الفلبين ومنغوليا عبر لبنان وبلغاريا وحتى نيكاراغوا والبرازيل . ويستنتج ان لامريكا اربعة اهداف وهي:
1 جعل الكرة الارضية مفتوحة لشركاتها العابرة للاوطان. 2 لتعزيز ثروة الشركات المنتجة للسلاح. 3 لمنع قيام اي نظام آخر كبديل للرأسمالية. 4 لنشر الهيمنة السياسية والعسكرية في كل مكان.
ولكل هذه الاسباب لا تستطيع الشعوب تحقيق الديمقراطية قبل التحرر الكامل.
كمال مجيد
التسميات
عرب