إطلاق سراح المقرحي.. بين الإفراج لأسباب صحية وصفقة تفوح منها رائحة البترول الليبي وحقوق استخراجه والتنقيب عنه

مرت الأشهر الثلاثة ولم يمت الرجل والآن نحن نقترب من دخول العام الثاني والرجل لا يزال على قيد الحياة خلافا لما توقعه الأطباء، وبما أن إرادة الله الذي يحيي ويميت خالفت توقعات وتمنيات البشر فقد قرر أربعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إثارة موضوع الإفراج الغامض لليبي المتهم في قضية تفجير طائرة بانام الأمريكية فوق سماء لوكربي الاسكتلندية ودعوا الحكومة البريطانية إلى فتح تحقيق حول حيثيات (صفقة) الإفراج، أما الناطق باسم وزارة الخارجية الامريكية فيليب كراولي فاعتبر الحكاية أمرا بالغ الأهمية بالنسبة إلى الشعب الأمريكي وسيكون موضوع حديث طويل بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون، وأضاف أن (كل يوم يقضيه المقرحي حراً في ليبيا هو إهانة لعائلات وضحايا رحلة بان-آم 103).
ماذا يريد الأمريكيون الذين عادوا إلى نبش قضية المقرحي المقبورة منذ شهور عديدة؟ هل يريدون أن يعيدوه إلى السجن أم يستعجلوا دفنه قبل أن يجيء أجله؟ 
الرجل قضى سنوات في السجن وهو إلى الآن يصر على أنه بريء وقد قدم ما أراد من الأدلة لإثبات براءته في موقع خاص على شبكة الإنترنت وهو لم يهرب من السجن ولم تبادر جماعة إرهابية إلى إخراجه من سجنه بالقوة، بل أفرج عنه بحكم من القضاء الذي يشاع عنه أنه مستقل ونزيه وهو نفس القضاء العادل الذي أدانه وحكم بسجنه. 
إضافة إلى كل ذلك فقد سبق لعائلات ضحايا الطائرة الأمريكيين وغيرهم أن قبضوا تعويضات مالية معتبرة من الخزينة العمومية الليبية ولم تلق تلك المبادرة وقتها رضا كثير من الليبيين الذين أنكروا على الأخ القائد سخاءه المفرط.
قد تكون هذه الواقعة درسا للقضاء الاسكتلندي وغيره في العالم النزيه حتى يضيفوا في حالات الإفراج عن المساجين لأسباب صحية شرطا جديدا ينص على أن المفرج عنه سيعود إلى السجن إذا قضى فترة الحياة التي قررها الأطباء ولم يمت، حينها إما عليه أن ينتحر أو يعود إلى السجن، وهذا من شأنه أيضا أن يفتح باب الاجتهاد أمام القضاء الغربي المستقل والنزيه لكي يقرر أيضا إعادة إحياء أي سجين يتوفاه الموت قبل انقضاء فترة محكوميته.
في انتظار صدور النصوص الاجتهادية وتعزيز التشريعات الغربية بها نريد هنا أن نلفت انتباه أعضاء الكونغرس ومسؤولي الإدارة الأمريكيين المغتاظين إلى مسألة أخرى لا تختلف كثيرا عن مأساة لوكربي وتفجيرات 11 ايلول/ سبتمبر، إنها قضية أناس ماتوا هم أيضا في تفجيرات وقصف طائرات ومدفعيات، أناس أبرياء لم يقترفوا ذنبا غير أنهم ولدوا في بلدان غير مهمة وينتسبون إلى شعوب سيان عند الغرب أن تكون حية أو ميتة. عشرات أو مئات الآلاف قضوا نحبهم في جرائم ثابتة الأركان لكن لا أمل لذويهم في الاقتصاص من قاتليهم ولا مجال أيضا لهم لتلقي تعويضات مادية بل لا أمل حتى في أن يسمعوا كلمة أسف على ذلك.
لا نذهب بعيدا في إحصاء الجرائم التي أفلت مرتكبوها من الحساب والعقاب الدنيوي، فتلك تعود إلى عهد استعماري ولى، لكن نبقى في ميدان الجرائم التي لا تزال تحصد الأرواح البريئة بالمئات والآلاف دون توقف. كثيرون جدا الذين يموتون في العراق وأفغانستان وفلسطين دون أن يقترفوا ذنبا يستحقون عليه العقاب، رجال ونساء وشيوخ أبرياء يسقطون كل يوم ضحايا الغزوات المباركة التي تشنها القوات الأمريكية والبريطانية وغيرها من قوات الحلفاء، أناس لا يختلفون في وضعهم عن ضحايا لوكربي لكن أعدادهم تفوق المائتين أضعافا مضاعفة. أهالي الضحايا لا ينتظرون من حكوماتهم هناك أن ترافع عنهم وتناطح الكبار من أجلهم لذا فإننا نتوجه إلى أعضاء الكونغرس وإلى القضاة النزهاء المستقلين في أمريكا وبريطانيا ولاهاي ليلتفتوا قليلا إلى الجرائم الإنسانية التي تشهدها الأراضي الأفغانية والباكستانية والعراقية والفلسطينية المحتلة. الحصول على أدلة إدانة المجرمين لن يحتاج إلى كبير عناء ولا إلى خبراء التحقيقات الفدرالية واسكوتلانديارد، المجرمون طلقاء وهم يتباهون أمام الرأي العام العالمي بأفعالهم التي يقولون إنها كانت دفاعا عن مصالح بلدانهم العليا ومحاربة لقوى الشر في العالم. وما دمنا بصدد الحديث عن المقرحي فإننا لا نريد منكم تحقيقات متواصلة ولا قوائم طويلة من المجرمين، نريد فقط واحدا أو اثنين من كل بلد شارك في هذه الحروب المدمرة ليمثلوا أمام القضاء وتصدر في حقهم أحكام بالسجن ولا نطلب أن تكون أقسى من الحكم الصادر في حق المتهم في تفجير طائرة لوكربي. دعونا نر مثلا جورج بوش الابن وديك تشيني وتوني بلير وإيهود أولمرت وإيهود باراك يحاكمون ويسجنون مثلما تحاكمون وتسجنون بقية العالم، فقط أبقوهم في السجن بضع سنوات، لا تعدموهم ولا تحبسوهم أبد الدهر، سنوات تعادل التي قضاها المقرحي في زنزانته وبعدها أطلقوا سراحهم ولو كانوا في أوضاع صحية لائقة. هناك أيها (الكونغرسيون) المحترمون أناس يتوقون إلى قليل من العدل ورد الاعتبار، أناس يموت ذووهم كالذباب ولا أحد يلفت إلى مأساتهم، أناس أحياء وأبرياء كما كان راكبو الطائرة الأمريكية المحترقة لكنهم لا يجدون شعوبا ولا حكاما يدافعون عن حقوقهم ويطالبون بملاحقة قاتليهم، فهل ستسدون لنا هذه الخدمة يوما ولكم منا كل التحية والتقدير؟
غير بعيد عن حكايات الموت طفت إلى الساحة الإعلامية مرة أخرى قضية مرض الرئيس المصري حسني مبارك ومثل المقرحي خرج من توقع بقرب حلول أجله فقالوا إنه سيغادر قبل أن يدور الحول ولن يكون هناك أمل في ترشحه للانتخابات الرئاسية المقررة العام القادم. لا أحد يعلم إن كانت تنبؤات مصادر صحيفة (واشنطن تايمز) ستلقى نفس مصير تنبؤات الأطباء الذين أفتوا في قضية المقرحي أم أنها ستتحقق أم ربما سيسبق الأجل تلك التنبؤات، لكن الأكيد هو أن الحكام العرب سنوا للعالم سنّة فريدة وهي أن البقاء على كرسي السلطة لا تحكمه انتخابات ولا دساتير ولا حتى الأوضاع الصحية، بل الموت وحده هو الفيصل. الرئيس العربي لا يمكن أن يغادر إذا انتهت فترة ولايته كما ينص عليه الدستور، ولا يتخلى عن حقه في السلطة إذا مرض أو صار في أرذل العمر، بل لا بد أن تخرج روحه ويدفن تحت الأرض حتى يقتنع هو والعالم معه أن هناك ضرورة لخلافته. لم نعد نستغرب عندما يهتم الناس عندنا وعندهم بآجال رؤسائنا، لا تهمهم مواعيد الانتخابات الرئاسية ولا حتى تطورات الأوضاع الصحية للحكام العرب بل فقط صار السؤال متى يموت هذا الحاكم ويسجى جثمانه في علم بلده ويقاد غير مطرود إلى غرفة الانتظار ويركب الرحلة إلى العالم الآخر.
أتمنى أن أرى وجه حاكم عربي واحد وهو يقرأ أخبارا تتوقع موته وتتحدث عن خليفته وظروف خلافته بعد أن يكون هو بين يدي غاسله وكافنه. ألا يخرج أحد فيهم يوما فيقول إني أستحق أن أعيش أياما أخلو فيها إلى نفسي وإلى عائلتي دون أن يكون هناك أناس يترقبون موتي ويتابعون أخباري ويتمنون رحيلي من هذا العالم؟
خضير بوقايلة
أحدث أقدم

نموذج الاتصال