مشروع برززنسكي واضح وموجز، حتى لو اقترح أنه يجب الإجهاز على روسيا، عند إلحاق أكرانيا، بالغرب، وباستخدام أوزباكستان، لتخلص آسيا الوسطى، من ذلك النفوذ الروسي، لكنه لم يكشف، عن الهدف من كل ذلك، وهو تطويق روسيا، بحيث تعود إلى تفكك قلب البلاد. ولم تستبعد الاستراتيجية العليا، قليلاً من الحذر الدبلوماسي. إلا أن هناك ما هو أكثر من مخجل، أو شائن. حيث لم يتَصدَّ برززنسكي لعدم فعالية اقتصاد الولايات المتحدة، والضرورة، في ضمانة ذلك سياسياً وعسكرياً، من أجل سيطرتها على ثروات العالم. لكن تقودها ثقافتها الجيو سياسية، لصياغة هذه التعليلات الأساسية، بطريقة غير مباشرة، أولاً، لأن الأساس للشعب وللنشاط العالمي، يوجد في الأوراسيا، مع التأكيد، أن الولايات المتحدة، بعيدة عن أوراسيا، وإثبات ذلك، واقعياً، ولنحلل هذه الرموز: إنها (الأوراسيا) التي تأتي منها تدفقات البضائع ورؤوس الأموال، الضرورية، للمحافظة على مستوى الرفاه الاجتماعي العالي للطبقات العليا والدول في الولايات المتحدة.
تجعل هذه المدخرات، من مثل ذلك المشروع، شيئاً متلاحماً والتهديد الوحيد، بالنسبة للإمبراطورية الأمريكية، يتعلق بروسيا التي يجب، إذن عزلها، وتجزئتها. ويمكن الحديث، عن تقريب بسماركي للمشاكل، حيث تحتل روسيا، مكان فرنسا المهزومة، في سنوات (1871-1890)، إذ نجح المستشار الألماني، حينذاك، في توحيد ألمانيا، عن طريق سحق فرنسا، في الفترة (1870-1871)، ثم قام بالعمل على المحافظة، على علاقات جيدة، مع جميع القوى الأوربية الأخرى، خلال العشرين سنة التالية، لعزل الخصم الوحيد، فرنسا، وإبعادها بنيوياً، رغبة بالثأر والانتقام، بسبب خسارتها للألزاس واللورين.
ويوصي برززنسكي، الولايات المتحدة الأمريكية، باتباع خط تصالحي مع جميع الأمم، ما عدا روسيا، حيث فهم تماماً، أن سيطرة الولايات المتحدة على أوراسيا، يعتمد في المقام الأول، على موافقة المحميات الأوربية واليابانية، وينصح بتجميد أو تصليب هذه السيطرة، بإعطاء دور عالمي، لليابان، أكثر من دورها الآسيوي، وتبني دور قابل للفهم تجاه بناء أوربا. وعوملت إنجلترا لوحدها، بطريقة متعجرفة حددت على أنها "غير فاعلة". وأشار إلى وجوب احترام التناوب الفرنسي- الألماني، في قيادة أوربا، باعتباره يلعب دور الاستراتيجية الرئيسة.
ويشير برززنسكي، إلى الموقف الأكثر قابلية للفهم تجاه فرنسا، وهو قمة الفكر السياسي. إذ الرؤيا أصبحت واضحة للانطلاق:
وتصبح هذه الإمبراطورية غير قابلة للتلاشي بل وتبقى منيعة ما دامت ترضى عنها كل من أوربا واليابان، وتدعم، رغبة الولايات المتحدة بالزعامة وتوصي بالتالي، على مجالها القريب، الضروري والأساسي للقوة التكنولوجية والاقتصادية في العالم ولأبعد من ذلك، القلب الاستراتيجي، إذ يوصي برززنسكي أيضاً، بموقف تصالحي تجاه الصين، حيث إن الخصومة المحتملة، ليست سوى مشكلة على المدى الطويل، ويوصي بالنسبة لإيران، إذ التطور المحتمل، لن يؤدي إلى المجابهة، أما روسيا، المحصورة بين أوربا واليابان، والمقطوعة عن الصين، وعن إيران، فقد فقدت كل وسيلة عمل في أوراسيا فعلياً. ولنوجز ذلك: على الولايات المتحدة القوة الأعظم الوحيدة، في عالم اليوم، أن تكون متسامحة، مع جميع القوى الثانوية، من أجل القضاء على التهديدات العسكرية الفورية الوحيدة لهيمنتها، من قبل روسيا، بشكل نهائي.
فأي جزء، من هذا البرنامج أصبح مطبقاً من قبل دبلوماسية الولايات المتحدة؟ في العمق، العمل ضد روسيا فقط، عن طريق التوسع نحو الشر ق لمنظمة حلف شمالي الأطلسي، والانفتاح على أكرانيا، واستخدام جميع الذرائع والحجج الممكنة، من أجل توسيع نفوذ الولايات المتحدة في القوقاز. وفي آسيا الوسطى.
ولقد سمحت الحرب ضد القاعدة ونظام الطالبان، بتمركز حوالي 
(12000) عسكري من الولايات المتحدة في أفغانستان، وحوالي (15000) في أوزباكستان، وبضع مئات في جورجيا، وعشرات الآلاف في العراق، بعد احتلاله، وقواعد منتشرة، في إمارات النفط العربية وممالكها. وهكذا، تكون الولايات المتحدة قد استغلت الظروف التي هيأتها، بالكذب والتهويل والخداع، لخدمة استراتيجيتها الشاملة، ولن تُريح مقاومة هذا الوجود الإمبريالي والاستعماري الجديد، بالطبع مخططي الاستراتيجيات الأمريكية، في معظم المناطق، ومهما بذلت من جهود. لقد أصبحت أهداف الولايات المتحدة واضحة تماماً للجميع، السيطرة على العالم، تطبيقاً للمبدأ الذي يقول، إن القرن الحادي والعشرين، سيكون قرناً أمريكياً، لكن، لن تستطيع أن تضمن الاستقرار لمصالحها وأطماعها، ولن تكفي الوسائل المتاحة للولايات المتحدة لتحقيق مكاسبها الجيو سياسية، ولن تتمكن من القضاء على التهديد العسكري، على المدى الطويل، لهيمنتها سواء من قبل روسيا، أم الصين، أم من أوربا الموحدة أم...
أما بالنسبة لباقي العالم، فإن الدبلوماسية الخاصة بالولايات المتحدة، بعيدة عن أن تصبح بسماركية، بنجاح، بل ستكون، ويلهلمينية (WILHELMIENNE) كارثية، لا بل ستصبح مكروهة ومزدراة، من قبل شعوب العالم أجمع، ولنعد للتاريخ قليلاً نستطلعه الرأي، إذ ما أن تخلص غليوم الثاني (GUILLAUM 2) من المستشار الحديدي حتى أسرع على الفور، بالمبادرة إلى الدخول في نزاع مع قوتين من القوى الرئيسة في أوربا: بريطانيا العظمى، وروسيا، ومبتدعاً لفرنسا نظام تحالفات أساسياً، قاد مباشرة إلى الحرب العالمية الأولى، ونهاية الهيمنة الألمانية. وهكذا، تهمل الولايات المتحدة حلفاءها، الأوربيين، لا بل تذلهم، بعملها وحيد الجانب، تاركة منظمة حلف شمالي الأطلسي، بلا إرادة، بل وتخضعها لسيطرتها، إلى جانب قوتها. وتخادع اليابان، ذات الاقتصاد الأكثر فعالية في العالم، والضروري لرفاهية الولايات المتحدة، تقدم اليابان كمتخلف، دون انقطاع.
كما تتحدى الصين، بلا كلل ولا ملل، وتضم إيران إلى محور الشر، وتدمر العراق، وتحتله عسكرياً، بعد أن جوعت شعبه وألحقت به أضراراً عادت به إلى الوراء سنين عديدة، تزدري الأنظمة العربية، وتطالبها بمطالب مخزية، كتغيير البرامج الدينية وغير ذلك... والتنازل عن جزء من تعاليمها الدينية. وتدعم الكيان الصهيوني، بكل الوسائل متحدية شعور العالم العربي والإسلامي، وتفرض على حكام هذه الشعوب شروطاً مذلة، وتنعتهم بصفات غير لائقة، إذ تأمرهم وتهددهم. كل ذلك، يجري، كما لو أن الولايات المتحدة، تحاول أن تشكل تحالفات أوراسية جديدة، من بلدان مختلفة إلا أنها متجاورة بسلوكها التائه. يضاف إلى ذلك، الخروج من النطاق الذي حدده برززنسكي، بخفة، والعناد المطبق من قبل الولايات المتحدة، قد عمم نزاعها مع العالم الإسلامي، بدعمها اللا محدود للكيان الصهيوني.
إن رعونة الولايات المتحدة، وغباءها، ليس محض صدفة؛ إنها تنتج كخيار إمبريالي بالتخلي عن الضرورات القصيرة الأمد، خلال مجرى الأحداث،  وإن المصادر الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، المحدودة للولايات المتحدة، لا تدع أمامها إمكانيات أخرى، من أجل التأكيد على دورها العالمي، إلا بالإساءة في معاملة القوى الصغرى ولديها منطق مخفي في الدبلوماسية، كالمد من على المخدرات أو الكحول فهي ضعيفة جداً أمام مجابهة غير الأقزام العسكريين. كذلك فهي تؤكد على دورها العالمي، على الأقل، وذلك بالتحدي لجميع الفاعلين الثانويين. وإن اعتمادها الاقتصادي على العالم يستوجب، حضوراً عالمياً، من نوع أو آخر كما يستوجب عدم كفاية مصادرها الحقيقية، إلى هسترية في المسرحية التي تمثله النزاعات الدولية الثانوية. وإن ضعفها عالمياً يجعلها تفقد وعيها، ومن جانب آخر، هي تريد الاستمرار في السيطرة بطريقة مساواتية بالنسبة لأوربا واليابان، حليفيها الرئيسين، اللذين يهيمنان على الصناعة العالمية.
موسى الزعبي
التسميات
عولمة