أما صاحب القلب المسكين فقام؛ ليخرج وقد تفارطته الهموم وتسابقت إليه فانكسر وتفتر؛ وكأنما هو قد فارق صاحبته باكيًا وباكية من حيث لا يرى بكاءه غيرها ولا يرى بكاءها غيره!
ورأيته ينظر إلى ما حوله كأنما تغشى الدنيا لون نفسه الحزينة؛ إذ كانت نفسه ألقت ظلها على كل شيء يراه؛ وجعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه.
إنه ليس أخفُّ وزنًا من الدمع، ولكن النفوس المتألمة لا تحمل أثقل منه،
حتى لينثر على النفس أحيانًا وكأنه وكأنها بناء قائم يتهدم على جسم؛ وبعض التنهدات على رقتها وخفتها، قد تشعر بها النفس في بعض همها كأنها جبل من الأحزان أخذته الرجفة فمادت به، فتقلقل، فهو يتفلق ويتهاوى عليها.
آه حين يتغير القلب فيتغير كل شيء في رأي العين! لقد كان صاحبنا منذ قليل وكأن كل سرور في الدنيا يقول له: أنا لك! فعاد الآن وما يقول له: "أنا لك" إلا الهم؛ والتقى هو والظلام والعالم الصامت!
جعل يدلف ولا يمشي كأنه مثقل بحمل يحمله على قلبه؛ ومتى وقع الطائر من الجو مكسور الجناح، انقلبت النواميس كلها معطلة فيه، وظهر الجو نفسه مكسورًا في عين الطائر المسكين؛ وتنفصل روحه عن السماء وأنوارها، حتى لو غمره النور وهو ملقى في التراب لأحسه على التراب وحده لا على جسمه..
ثم خرجنا، فانتبه صاحبنا مما كان فيه؛ وبهذه الانتباهة المؤلمة أدرك ما كان فيه على وجه آخر، فتعذب به عذابين: أما واحد فلأنه كان ولم يدم وأما الآخر فلأنه زال ولم يعد؛ والسرور في الحب شيء غير السرور الذي يعرفه الناس؛ إذ هو في الأول روح تتضاعف به الروح، فكل ما سرك وانتهى شعرت أنه انتهى؛
ولكن ما ينتهي من سرور العاشق المستهام يشعره أنه مات، فله في نفسه حزن الموت وهمّ الثكل، وله في نفسه هم الثكل وحزن الموت!
وينظر صاحب القلب المسكين فإذا الأنوار قد انطفأت في الحديقة، وإذا القمر أيضًا كأنما كان فيه مسرح وأخذوا يطفئون أنواره.
كان وجه القمر في مثل حزن وجه العاشق المبتعد عن حبيبته إلى أطراف الدنيا، فكان أبيض أصفر مكمدًا، تتخايل فيه معاني الدموع التي يمسكها التجلد أن تتساقط.
كان في وجه القمر وفي وجه صاحبنا معًا مظهر تأثير القدر المفاجئ بالنكبة.
وبدت لنا الحياة تحت الظلمة مقفرة خاوية على أطلالها، فارغة كفراغ نصف الليل من كل ما كان مشرقًا في نصف النهار؛ يا لك من ساحر أيها الحب؛ إذ تجعل في ليل العاشق ونهاره ظلامًا وضوءًا ليسا في الأيام والليالي!
أما الحديقة فلبسها معنى الفراق، وما أسرع ما ظهرت كأنما يبست كلها لتوها وساعتها، وأنكرها النسيم فهرب منها فهي ساكنة، وتحولت روحها خشبية جافة، فلا نضرة فيها على النفس؛ وبدت أشجارها في الظلام، قائمة في سوادها كالنائحات يلطمن ويولولن، وتنكر فيها مشهد الطبيعة كما يقع دائمًا حين تنبت الصلة بين المكان ونفس الكائن.
ماذا حدث؟
لا شيء إلا ما حدث في النفس، فقد تغيرت طريقة الفهم، وكان للحديقة معنى من نفسه فسلب المعنى، وكان لها فيض من قلبه فانحبس عنها الفيض؛ وبهذا وهذا بدت في السلب والعدم والتنكر، فلم يبق إبداع في شيء مبدع، ولا جمال في منظر جميل.
أكذا يفعل الحب حين يضع في النفس العاشقة معنى ضئيلًا من معاني الفناء كهذا الفراق؟
أكذا يترك الروح إذا فقدت شيئًا محبوبًا، تتوهم كأنها ماتت بمقدار هذا الشيء؟
مسكين أنت أيها القلب العاشق! مسكين أنت!
ومضينا فملنا إلى نديّ نجلس فيه، وأردت معابثة صاحبنا المتألم بالحب والمتألم بأنه متألم، فقلت له: ما أراك إلا كأنك تزوجتها وطلقتها فتبعتها نفسك!
قال: آه! من أنا الآن؟ وما بال ذلك الخيال الذي نسق لي الدنيا في أجمل أشكالها قد عاد فبعثرها؟ أتدري أن العالم كان في ثم أخذ مني فأنا الآن فضاء فضاء.
قلت: أعرف أن كل حبيب هو العالم الشخصي لمحبه.
قال: ولذلك يعيش المحب المهجور، أو المفارق، أو المنتظر، وكأنه في أيام خلت، وتراه كأنما يجيء إلى الدنيا كل يوم ويرجع.
قلت: إن من بعض ما يكون به الجمال جمالًا أنه ظالم قاهر عنيف، كالملك يستبد ليتحقق من نفاذ أخره، وكأن الجميل لا يتم جماله إلا إذا كان أحيانًا غير جميل في المعاملة!
قال: ولكن الأمر مع هذه الحبيبة بالخلاف؛ فهي تطلبني وأتنكبها، وهي مقبلة لكنها مقبلة على امتناعي؛ وكأنها طالب يعدو وراء مطلوب يفر، فلا هذا يقف ولا ذلك يدرك.
قلت: فإن هذه هي المشكلة، ومتى كانت الحبيبة مثلها، وكان المحب مثلك، فقد جاءت العقدة بينهما معقودة من تلقاء نفسها فلا حل لها.
قال: كذلك هو، فهل تعرف في البؤس والهم كئوس العاشق الذي لا يتدبر كيف يأخذ حبيبته، ولكن كيف يتركها؟ ما هي المسافة بيني وبينها؟ خطوة، خطوتان؟ كلا، كلا؛ بل فضائل وفضائل تملأ الدنيا كلها، إن مسافة ما بين الحلال والحرام متراخية ممتدة ذاهبة إلى غير نهاية؛ وإذا كان الحب الفاسد لا يقبل من الحبيب إلا "نعم" بلا شرط ولا قيد؛ لأنه فاسد، فالحب الطاهر يقبل "لا" لأنه طاهر! ثم هو لا يرضى "نعم" إلا بشرطها وقيدها من الأدب والشريعة وكرامة الإنسانية في المرأة والرجل.
وإذا لم ينته الحب بالإثم والرذيلة، فقد أثبت أنه حب؛ وشرفه حينئذ هو سر قوته وعنصر دوامه.
أتعرف أن بعض عشاق العرب تمنى لو كان جملًا وكانت حبيبته ناقة.. إنه بهذا يود ألا يكون بينهما العقل والقانون وهذا الحرمان الذي يسمي الشرف، وألا يكون بينهما إلا قيد غريزتها الذي ينحل من تلقاء نفسه في لحظة ما، وأن يترك لقوته وتترك هي لضعفها؛ والقوة والضعف في قانون الطبيعة هما ملك وتمليك واغتصاب وتسليم.
قلت: وهذا ما يفعله كل عاشق لمثل هذه الراقصة إذا لم يكن فيه إلا الحيوان؛ فإن بينهما قوة وضعفًا من نوع آخر، فمعه الثمن وبها الحاجة، وهما في قانون الضرورة ملك وتمليك.
قال: وهذا مما يقطع في قلبي؛ فلو أن للأمة دينًا وشرفًا لما بقي موضع الزوجة فارغًا من رجل، وإن هذه وأمثالها إنما ينزلن في تلك المواضع الخالية أول ما ينزلن، فكل بغي هي في المعنى دين متروك وشرف مبتذل في الأمة.
قلت: فحدثني عنك ما هذا الوجد بها وما هذا الاحتراق فيها، وأنت قد كنت بين يديها خياليًّا محضًا كأنما جمعتها في حواسك فأخذتها وتركتها في وقت معًا، وحواسك هذه لا تزال كما هي، بل هي قد زادت حدة، فكما صنعت لك من قرب تصنع لك من بعد؟
قال: أنا في محضرها أحبها كما رأيت بالقدر الذي تقول هي فيه إنك لا تحبني، إذ كان بيننا آخر اسمه الخلق؛ ولكن يفي غيابها أفقد هذا الميزان الذي يزن المقدار ويحدده، وإذا كنت لم تعلم كيف يصنع العاشق في غيبة المعشوق، فاعلم أن كبرياءه حينئذ لا ترى بإزائها ما تقاومه، فتتخلى عنه وتخذله؛ وفضيلته لا تجد ما تستعلن فيه، فتتوارى وتدعه؛ وشخصيته لا تجد ما تبرز له، فتختفي وتهمله؛ فما يكون من كل ذلك إلا أن يظهر المسكين وحده بكل ما فيه من الوهن والنقص وحدة الشوق؛ وهنا ينتقم الحب مما زورت عليه الكبرياء والفضيلة والشخصية، فيضرب بحقائقه ضربات مؤلمة لا تقوم لا القوة، ويجعل غياب الحبيب كأنه حضوره مستخفيًا لرؤية الحقيقة التي كتمت عنه؛ وكم من عاشقة متكبرة على من تهواه تصد وتباعده، وهي في خلوتها ساجدة على أقدام خياله تمرغ وجهها هنا وهنا على هذه القدم وعلى هذه القدم!
لا إنه لا بد في الحب من تمثيل رواية الامتناع أو الصد أو التهاون أو أي الروايات من مثلها؛ ولكن ثياب المسرح هي دائمًا ثياب استعارة ما دام لابسها في دوره من القصة.
ثم وضع المسكين يده على قلبه وقال: آه! إن هذا القلب يغاضب الحياة كلها متى أراد أن يشعر صاحبه أنه غضبان.
مَنْ مِنَ الناس لا يعرف أحزانه؟ ولكن من منهم الذي يعرف أسرار أحزانه وحكمتها؟ أما إنه لو كشف السر الأفراح والأحزان عملًا في النفس من أعمال تنازع البقاء؛ فهذا الناموس يعمل في إيجاد الأصلح والأقوى، ثم يعمل كذلك لإيجاد الأفضل والأرق، ومن ثم كانت آلام الحب قوية حتى لكأنها في الرجل والمرأة تهيئ أحد القلبين؛ ليستحق القلب الآخر.آه من هذا اللواعج! إنها ما تكاد تضطرم حتى ترجع النفس وكأنها موقد يشتعل بالجمر، وبذلك يصهر المعدن الإنساني ويصنع صنعة جديدة؛ وإلى أن ينصهر ويتصفى ويصنع، ماذا يكون للإنسان في كل شيء من حبيبه؟
يكون له في كل شيء روحه النازي.قلت: بخ بخ*! هكذا فليكن الحب؛ إنها حين تهيج في نفسك الحنين إليها تعطيك ما هو أجمل من جمالها وما هو أبدع من جسمها؛ إذ تعطيك أقوى الشعر وأحسن الحكمة.قال: وأقوى الألم وأشد اللوعة! يا عجبًا! كأن الحياة لا تقدم في عشق المحبوب إلا عشقها هي؛ فإذا وقعت الجفوة، أو حم البين، أو اعترى اليأس -قدم الموت نفسه فكل ذلك شبه الموت.
إن الحزن الذي يجيء من قبل العدو يجيء معه بقوة تحمله وتتجلد له وتكابر فيه؛ ولكن أين ذلك في حزن مبعثه الحبيب؟ ومن أين القوة إذا ضعف القلب؟
قلت: لا يصنع الله بك إلا خيرًا؛ فإذا كان غد وانسلخ النهار من الليل جئنا إليها فرأيناها في المسرح، ولعل الأمر يصدر مصدرًا آخر، قال: أرجو..
ولم يكد ينطق بهذه الرجية حتى مر بنا سبعة رجال يقهقهون، ثم تلاقينا وجئنا؛ ويا ويلتنا على المسكين حين علم أنها رحلت؛ لقد أدرك أن الشيطان كان يضحك بسبعة أفواه.. من قوله: أرجو..ولماذا رحلت؟ لماذا؟ وأما هو..؟
---------------
كلمة الإعجاب تقال عند الرضى والمدح، ومثلها "زه" وهذه فارسية.
مصطفى صادق الرافعي
التسميات
أفروديت