غابة بلغراد: القلب الأخضر لإسطنبول؛ تاريخها المائي العثماني (1521-القرن 18) ودورها الترفيهي البيئي المحمي

غابة بلغراد (Belgrad Forest): قلب إسطنبول الأخضر وتاريخها المعماري المائي

غابة بلغراد (Belgrad Ormanı) هي رئة إسطنبول الخضراء، وهي غابة نفضية مختلطة شاسعة تقع على الطرف الشرقي لشبه جزيرة تراقيا، ملاصقة مباشرة للمدينة الصاخبة في تركيا. لا تُعد الغابة مجرد مساحة طبيعية هامة فحسب، بل هي أيضاً مستودع للتاريخ العثماني والبيزنطي، خاصة فيما يتعلق بأنظمة إمدادات المياه القديمة للمدينة.


الموقع الجغرافي والتاريخ الغني بالهجرة:

الجغرافيا والتقسيم الإداري:

تقع غابة بلغراد جغرافياً في نقطة استراتيجية، وتنقسم إدارياً بين مقاطعتي ساريير (Sarıyer) وإيوب (Eyüp). تتميز الغابة بتضاريسها المتموجة بلطف (تلال معتدلة) وكثافة أشجارها، مما جعلها على مر العصور مورداً حيوياً ووجهة ترفيهية أساسية.

أصل التسمية (القصة الصربية):

يعود أصل تسمية الغابة إلى حدث تاريخي مهم وقع في عهد السلطان سليمان القانوني (Süleyman the Magnificent). بعد حصار وسقوط مدينة بلغراد (التي كانت تُسمى بالصربية "Beograd") على يد العثمانيين في عام 1521، قام سليمان بترحيل آلاف الأسر الصربية من المدينة ونقلهم إلى هذه المنطقة المتاخمة لإسطنبول. هؤلاء المهاجرون، الذين استقروا في المنطقة، نقلوا معهم أيضاً بعض الآثار والذكريات الدينية، مثل بقايا القديسة باراشيفا (Paraskevi) من البلقان، وظلت الغابة تحمل اسم مدينتهم الأصلية (بلغراد)، تخليداً لذكراهم.


الحجم، التكوين البيئي، وحالة الحماية:

تغطي الغابة مساحة واسعة تبلغ حوالي 5500 هكتار، مما يجعلها بيئة حيوية غنية بالتنوع البيولوجي:

  • التكوين النباتي: الغابة هي غابة نفضية مختلطة، وتُعد أشجار البلوط الصخري (Quercus petraea) النوع الأكثر شيوعاً وهيمنة فيها.
  • الحماية والترفيه: تُصنف غابة بلغراد على أنها منطقة محمية، وتُعتبر واحدة من أكثر المناطق الترفيهية زيارة في إسطنبول، مما يشير إلى أهميتها البيئية والسياحية.
  • التحديات البيئية: بالرغم من حمايتها، تواجه الغابة تحديات جديدة ومعقدة. فقد أثار بناء الجزء الغربي من الطريق السريع الممتد فوق جسر البوسفور الثالث (افتتح عام 2016)، والذي يمر عبر الجزء الشمالي منها، بالإضافة إلى التوسع العمراني السريع حول إسطنبول، تساؤلات جدية حول التأثير العملي لجهود الحماية على المدى الطويل.


روائع الهندسة المعمارية المائية: القنوات والسدود

تتميز غابة بلغراد بكونها الخزان التاريخي للمياه الذي كان يغذي القسطنطينية (إسطنبول) لقرون طويلة. وبينما قد لا توجد اليوم بقايا واضحة لـالقنوات البيزنطية، فإن الغابة تحتفظ بآثار السدود (الْبُنُود) والقنوات العثمانية المذهلة التي بُنيت على مدى 150 عاماً.

نظام القنوات القديم (نظام كيركتشمي - Kırkçeşme):

كان نظام كيركتشمي هو الأقدم والأكبر، وكان يهدف إلى توجيه المياه إلى منطقة إيغريكابي (Eğrikapı) على أسوار المدينة.

  • الإصلاح العثماني: على الرغم من أن العديد من القنوات والسدود التي دعمت هذا النظام قد بُنيت في الأصل في العصرين الروماني والبيزنطي، إلا أنه في القرن السادس عشر، كلف السلطان سليمان القانوني المهندس المعماري العثماني الأسطوري سنان بإعادة بناء وتطوير النظام بالكامل.
  • القنوات البارزة:

  1. قناة ماغلوفا (Maǧlova Aqueduct): تُعتبر الأكبر والأكثر إثارة للإعجاب، وتتميز بهندستها الاستثنائية وقوتها. يمكن الوصول إليها بسهولة والمشي بأمان في مستواها الأدنى.
  2. قناة كيميربورغاز (Kemerburgaz Aqueduct): يمكن أيضاً عبورها واجتيازها.
  3. أوزونكيمر (Uzunkemer): قناة تم ترميمها حديثاً، وهي قائمة عبر طريق مزدحم في الغابة، لكنها غير قابلة للمشي حالياً.
  4. قناة فالنس (Valens Aqueduct): بالرغم من أنها خارج الغابة، إلا أنها تُعد أكبر نصب تذكاري يمثل تعقيد هذا النظام، حيث تمتد على طول شارع أتاتورك بولفاري المزدحم، مما يرمز إلى النظام المعقد لإحضار المياه إلى المدينة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر.

نظام القنوات الثاني (نظام تقسيم):

مع تزايد عدد سكان إسطنبول، كان من الضروري توسيع شبكة إمدادات المياه. لذلك، ظهر نظام تقسيم كخط إمداد ثانٍ، حيث تم بناء معظم قنواته وخزاناته الرئيسية في القرن الثامن عشر، أي بعد فترة طويلة من إعادة بناء نظام كيركتشمي.

  • النصب الأكثر بروزاً: هو قناة محمود أنا كيمر (Mahmud I Aqueduct)، الذي أُقيم عام 1732 ويقع مباشرة بجوار الطريق في بلدة باهتشكوي (Bahçeköy).
  • نهاية النظام: ينتهي نظام تقسيم في الخزان الكبير في ميدان تقسيم (Taksim Square)، الذي يُستخدم حالياً كمعرض فني صغير ووجهة سياحية.

الترفيه والسياحة والنشاطات:

تُعد غابة بلغراد ملاذاً طبيعياً يقدم العديد من الأنشطة الترفيهية التي تجذب السكان المحليين والسياح:

1. المشي والركض واستكشاف الطبيعة:

  • مسار الجري الرئيسي: أحد الأنشطة الأكثر شعبية هو الركض على مسار يبدأ عند النافورة بجوار نبع نيشت (Neset Suyu). يبلغ طول هذا المسار حوالي 6 كيلومترات ويتضمن معدات للتمارين الرياضية للاستخدام العام.
  • الاستكشاف العميق: يمكن للمتنزهين قضاء ساعات في الغابة خارج المناطق الترفيهية الرئيسية، حيث توجد العديد من المسارات والمسالك. ومع ذلك، يواجه المستكشفون تحدياً بسبب عدم توفر خرائط واضحة للمسالك الضيقة والأسوار، مما يجعل الاعتماد على البوصلة أو أجهزة GPS (الهواتف الذكية) أمراً مستحباً عند التعمق في الغابة.
  • نقطة الانطلاق المثالية: تُعد بلدة باهتشكوي (Bahçeköy)، الواقعة تقريباً في وسط الغابة، أسهل نقطة لبدء استكشاف الغابة، حيث يتم خدمتها جيداً بواسطة الحافلات العامة، وتسهل الوصول إلى معظم السدود والخزانات العثمانية.

2. مشتل أتاتورك (Atatürk Arboretum):

  • التنوع النباتي: يُعد المشتل أفضل مكان لمشاهدة ألوان الغابة المتغيرة على مدار المواسم، حيث يضم أكثر من 2000 نوع نباتي.
  • الجذب الخريفي: يكتسب المشتل جاذبية خاصة في فصل الخريف، حيث يمكن مشاهدة مجموعة متنوعة من أشجار البلوط التي جُلبت من مختلف أنحاء العالم.
  • الزيارة والتكلفة: يفتح المشتل يومياً باستثناء أيام الاثنين (اعتباراً من 2016)، ويستغرق استكشافه بضع ساعات بسهولة. يتميز بقواعد خاصة، حيث يُصادر الطعام (باستثناء الماء) عند المدخل ويُعاد عند المغادرة.

3. النزهات والشواء:

  • الهروب في عطلة نهاية الأسبوع: من التقاليد الشائعة لسكان إسطنبول زيارة الغابة في الربيع والصيف للاستمتاع بالنزهات والهروب من حرارة المدينة.
  • مناطق التنزه المخصصة: توفر الغابة سبع مناطق نزهة رئيسية مخصصة، ويُسمح للمسافرين باستخدام حفلات الشواء المحمولة فيها، مع ضرورة توخي الحذر الشديد بسبب المخاطر المترتبة على حرائق الغابات.
  • الوجهة الأشهر: تُعد منطقة بويوك بينت (Büyük Bent) الوجهة الأكثر شعبية، وتحتوي على مقهى خاص بها، حيث تتوفر المشروبات والوجبات الخفيفة، ويمكن للزوار الطهي على الطاولات الخشبية الطويلة.


الحدائق الطبيعية المحمية:

للحفاظ على البيئة الطبيعية وضمان تنظيم الأنشطة الترفيهية، تم تحديد تسع حدائق طبيعية ضمن غابة بلغراد، كل منها يقدم خصائصه وميزاته الفريدة، ومن أهمها:

  • حديقة إيفات بندي الطبيعية.
  • منتزه بنتلر الطبيعي.
  • حديقة نيشت سويو الطبيعي.
  • حديقة كوموركوبنت الطبيعية.
  • حديقة محمد عاكف ارسوي الطبيعية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال