رثاء النفس في الشعر الجاهلي.. فروسية الشاعر وبطولته من أجل قبيلته سبب مقنع للعزاء الذي يلتمسه لنفسه



يتمثل رثاء النفس برثاء الشعراء أنفسهم، وندبهم حياتهم، ويلمس المرء في هذا الاتجاه إحساسا قويا، ويدرك عاطفة متميزة ،ولأن هذه الظاهرة متعلقة بالشاعر نفسه، فهو صاحب المصير المحتوم، ومَنْ أولى برثائه منه فلا غرابة إذا وجدنا العاطفة تتدفق بغزارة، وتنبعث بقوة مجسدة آماله في الحياة، مصورة نهايته التي أدرك أنه ملاقيها.

ولعل قصيدة يزيد بن الحذاق التي أسف فيها على نفسه أول شعر قيل في هذا الباب.
فقد تخيل ما سيصنع به أهله بعد الموت، من ترجيل شعره، وإدراجه في الكفن، واختيار أفضل الفتيان ليتولوا دفنه في ضريحه.

ولعله قد انفرد بهذا التصوير المفصل لهذه الحال بين الشعراء، وهو لم يقف في قصيدته عند هذا الموقف من ظاهرة الموت، التي نظر إليها هذه النظرة، وإنما حاول أن ينتفع من تجربة الحياة التي عاشها، فنراه يقدم النصيحة للذين يستقبلون الحياة، فهو يهون شأن المال، لأنه سوف ينتهي إلى الوارث، فيقول:
هل  للفتى من بنات الدهر من واق
أم هل له من حمام الموت من راق
قد رجلوني وما رجلـت من شعث
وألبسونـي ثيابـا غيـر أخـلاق
ورفعوني وقالـوا: أيمـا رجـل
وأدرجونـي كأنـي طي مخراق
وأرسلوا فتية من خيرهـم حسبـا
ليسندوا في ضريح الترب أطباقي
هـوّن عليـك ولا تولـع  بإشفاق
فإنمـا مالنـا للـوارث البـاقي
كأنني قد رماني الدهر عن عرض
بنافـذات بـلا ريـش وأفـواق

أما القصيدة الثانية فهي قصيدة عبد يغوث بن وقاص الحارثي، وكان من خبره أنه أسر يوم الكُلاب الثاني، وكان قائد قومه مذحج، واراد أن يفدي نفسه فأبت بنو تميم إلا ان تقتله بالنعمان بن جساس، ولم يكن عبد يغوث قاتله، ولكن قالت تميم: قتل فارسنا، ولم يقتل لكم فارس مذكور. وكانوا قد شدوا لسانه بنسعة لئلا يهجوهم، فلما لم يجد من القتل بدا طلب اليهم أن يطلقوا لسانه، فقالوا: إنك شاعر، ونخاف أن تهجونا، فعقد لهم ألا يفعل، فأطلقوا لسانه، وأمهلوه حتى قال القصيـدة، ثم قتلوه، بأن قطعوا له عرقا يقال له: الأكحل، وظل ينزف حتى مات.

وفي هذه القصيدة من الصدق العاطفي، وسلامة الأداء ما يجعلها خليقة بالاهتمام.
وأول ما يطالعنا في هذه القصيدة ارتباط الشاعر بأصدقائه، وأبناء عشيرته.

هذا الارتباط دفعه إلى تذكرهم منذ المطلع، وذكرهم بأسمائهم في صورة من صور التحسر، والحزن الذي ملأ قلبه:
فيا راكبا  إما عرضت فبلغن
نداماي من نجـران الا تلاقيا
أبا كـرب والأيهمين كليهما
وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا

ويلتمس الشاعر تفسيرا لحالة الضعف التي أصابته حين يردها إلى العلاقة القبلية التي تفرض على الشاعر ضربا من السلوك لا ينبغي له تجاوزه حتى في حالات الموت.

فالشاعر مقدم في القبيلة، كما هو معروف، وهي تعلق عليه آمالها في السلم والحرب، فلا يجوز له أن يخذلها، أو يتهاون في نصرتها.

فإذا اجتمع للشاعر، بجانب هذه  المكانة، سيادة القبيلة ،كما اجتمع لعبد يغوث، وجب عليه أن يظل حاميا لها مدافعا عن مكانتها، ولو أدى به إلى الوقوع في ضيق أو أسر أو موت.

لذلك فإن الشاعر يؤكد هذه الظاهرة الموضوعية حين يبرّر وقوعه في الأسر بسبب دفاعه عن ذمار القوم، وعدم استسلامه في أحلك ساعات الحرب حيث الرماح تختطف المتقدمين من المحاربين:
ولو شئت نجتني من الخيل نهدة
ترى خلفها الحو الجياد  تواليا
ولكننـي احمـي ذمار  أبيكـم
وكان الرماح يختطفن المحاميا

ان فروسية الشاعر وبطولته من أجل قبيلته سبب مقنع للعزاء الذي يلتمسه لنفسه.
ونحن إذ نقرر أن للفروسية قداسة تواضع عليها المجتمع الجاهلي فهي فروسية محكمة الوسيلة والغاية.

فالوسيلة هي استعداد الفارس للدفاع عن قومه، والغاية هي تحقيق الحياة الكريمة، أو الموت الكريم، وهذه هي أخلاق الفروسية التي تمثلت في عبد يغوث الحارثي.

ونطالع في القصيدة خلقا آخر من أخلاق الفروسية مثلته القصيدة تمثيلا واضحا، حين أدار الشاعر حوارا مع أعدائه حول قضية أسره، إنه يسعى لإقناعهم بالابقاء عليه، لأنه ليس ممن يقاد بدم غيره، كما أنه ليس مسؤولا عن قتل زعيمهم .وليعلموا أن قتلهم اياه يعني قتل رجل سيد في قومه.
إن مثل هذه القيم التي تواضع عليها الجاهليون تجعل من النص وثيقة لشعر الفروسية.

ونراهم في الوقت نفسه يأخذون على الشاعر عهدا بعدم هجائهم ، فيربطون على لسانه بنسعة، تعجزه عن القول، وتمنعه من الكلام:
أقول وقد شدوا لساني بنسعة
أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا
فإن أخاكم لم يكن من بوائيا
فإن تقتلونـي تقتلوا بي سيدا
وإن تطلقوني تحربوني بماليا

فخر الشاعر بنفسه، والاعتداد بها، وتذكره أيامه الخوالي، أيام القوة والعطاء من ابرز المظاهر الموضوعية في القصيدة.
إنه يستحضر صورة الماضي الماثل في نفسه حين كان يخوض غمار المعارك، فتصوب الرماح إليه من كل جانب:
وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا
لبيقا بتصرف القنـاة  بنا نيـا
وعاديـة سوم الجـراد وزعتها
بكفي وقد أنحوا  إلي العواليـا
كأني لم أركب جـوادا ولم أقل
لخيلي كري نفسي على رجاليا

إن بواعث الفخر في مرثية عبد يغوث مرتبطة بموقف نفسي، فالشاعر في لحظات الموت قد أحس بالانكسار الشديد، وإنه صار أمثولة للقوم، ومبعثا للسخرية والضحك والاستهزاء:
وتضحك مني شيخة عبشمية 
كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا

أنه يرفض هذا الموقف، كما يرفض الاستسلام لسطوة الموت أصلا، فهو يسعى ليخلق توازنا للذات، يخفف عنه أ لم المصاب، إنه يهرب من حالة الضعف إلى حالة القوة، فإذا تمثلت حالة الضعف لديه بالأسر، أو انتظار الموت، فإن حالة القوة تتمثل له بالاعتداد بالنفس، واستحضار صور الشجاعة المتحدرة من ماضيه والماثلة في ذاكرته.

لذلك فالفخر هنا عزاء للنفس، واكرام لها في لحظة من لحظات الهزيمة، تلك اللحظات التي لا تتبدل إلا بالانتقال من النقيض إلى النقيض.

والقصيدة الثالثة التي سنقف عندها، هي قصيدة بشر بن أبي خازم الأسدي، فقد ذكر في اسباب قولها أن غلاما من الأبناء رمى بشرا بسهم فأثخنه.

والأبناء: وائلة ومرة ومازن وغاضرة، فكل ولد صعصعة غير عامر يسمّوْن الأبناء... والغلام من بني وائلة بن صعصعة.

وإن بشرا أسر الوائلي، ثم أيقن بشر أنه ميت ، فأطلق الغلام في بعض الطريق، وقال: انطلق، وأخبر أهلك أنك قتلت بشر بن أبي خازم. ثم اجتمع إليه أصحابه، فقالوا له: أوص. فقال هذه القصيدة، يرثي بها نفسه، ويفخر بها وبقومه، وهي من جيد شعر العرب:
أسائلـة عمـيرة عـن  أبيهـا
خلال الجيش تعترف الـركابا
تؤمـل  أن أؤوب لهـا بنهـب
ولم تعلـم بـأن السهـم صابا
فإن أباك قد لاقــى غــلاما
من الأبنـاء يلتهـب التهابـا
وإن الوائلـيّ  أصـاب قلبـي
بسهم لم يكـن يكسـى لغابـا
فرجّي الخير وانتظري إيابـي
إذا ما القـارظ العنـزي آبـا
فمن يك سائلا عن بيت بشـر
فإن له بجنـب الـرده بابـا
ثوى في  ملحـد لا بـد منـه
كفى بالمـوت نأيـا واغترابا
رهين بلى وكل فتـى سيبـلى
فأذري الدمع وانتحبي انتحابا
مضى قصد السبيل وكل  حـي
إذا يــدعى لميتتـه أجـابا
فإن أهلك عمير فرب زحـف
يشبه نقعـه عـدوا ضبابـا

وللأسود بن يعفر النهشلي جهود فنية في هذا الاتجاه ،فرأى الدهر يهجم عليه، ويسلبه فرحته، ويحرمه من ثيابه الفاخرة، ونراه يمد يده إلى سيد قبيلته مستنجدا، وليس ثمة ما يجدي أمام سطوة الموت وجبروت الدهر، فإنه يفعل ما يشاء، فليس ثمة مناص من الموت ساعة دنو الأجل، ولا يملك المرء إلا الخضوع والاذعان، قال:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل
سوى الناس مهما شاء بالناس يفعل
فما زال مدلولا على مسلطـا
ببؤسي ويغشاني بنـاب وكلكـل
وألفى سلاحي كاملا فاستعاره
ليسلبني نفسي أمـالَ بنَ حنظـل
فإن يك يومي قد دنا وأخالـه
كواردة يوما على غيـر منهـل

اما عبيد بن الأبرص فيبدو أنه كان مكثرا في هذا الاتجاه ، فعندما أتى عبيد إلى المنذر بن ماء السماء في يوم بؤسه، الذي أقسم أن يقتل أول مَنْ يراه فيه، فعزم على قتله، واستنشده قبل ذلك، فقال: أنشدني قبل أن أذبحك، فقال عبيد: والله أن متّ ماضرني. فقال له: لابد من الموت ، فاختر من الأكحل، وإن شئت من الأبجل، وإن شئت من الوريد، فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد: واردها شر وارد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيها لمرتاد. فإن كنت قاتلي فاسقني الخمر، حتى إذا ذهلت ذواهلي، وماتت لها مفاصلي، فشأنك وما تريد. ففعل به ما أراد، فلما دعا به ليقتله أنشد هذه الأبيات. ثم أمر به المنذر ففصد، فنزف دمه حتى مات:
وخيرني ذو البؤس في يوم بؤسه
خصالا أرى في كلها الموت قد برق
كما خُيرتْ عاد مـن الدهر مرة
سحائب مـا فيها لـذى خيـرة أنق
سحائـب ريح لـم توكّل ببلـدة
فتتركهــا الا كمـا ليلـة الطلـق

وقيل لما أراد المنذر بن ماء السماء أن يقتل عبيدا، قال له: أنشدني قولك:
"اقفرل من أهله ملحوب" فقال عبيد:
أقفر من أهله عبيد
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
عنت له منية نكود
وحان منه  لهـا ورود

ثم قال يرثي نفسه:
يا حار ما راح من قوم ولا ابتكروا
الا وللموت في آثارهم حادي
يا حار ما طلعت شمس ولا غربت
الا  تقـرب آجـال لميعـاد
هل نحـن الا كـأرواح تمـر بها
تحت التراب وأجساد كأجساد