رثاء الأمم في الشعر الجاهلي.. التأمل الذاتي الذي انبثق عن الاتعاظ بالأمم البائدة والملوك الذين قهرهم الموت بعد ارتفاع شأنهم وعلو مكانتهم وعز سلطانهم



اتجه الشعراء الجاهليون في بعض مضامين قصيدة الرثاء اتجاها جديدا رائدا، وفتحوا في هذا الفن بابا جديدا، من خلال التأمل الذاتي الذي انبثق عن الاتعاظ بالأمم البائدة، والملوك الذين قهرهم الموت بعد ارتفاع شأنهم، وعلو مكانتهم، وعز سلطانهم.

فقد اتعظ الأسود بن يعفر النهشلي، ووعظ غيره، بمن سبقه من الملوك العظام، والأمم القوية ، فاتعظ بآل محرق (المناذرة) وباياد، الذين كانوا نموذجا للعز والثراء، والجاه والجود، فكان ملكهم ثابتا قويا مستقرا، وبآل غَرْف الذين كانوا رمزا للقوة، فما أغنت هؤلاء قوتهم، ولا أغنى أولئك جاههم ، وصاروا جميعا إلى "بلى ونفاد"، فقال:
مـاذا أؤمـل بعـد آل محـرق
تركـوا منازلهـم وبعـد  إياد
أهل الخورنق والسـدير وبـارق
والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرضـا تخيرهـا لـدار أبيهـم
كعب بن مامـة وابـن أم دؤاد
جرت الرياح على مكان ديارهم
فكأنمـا كانـوا علـى ميعـاد
ولقد غنوا فيهـا بأنعـم عيشـة
في ظل ملـك ثابـت الأوتـاد
نزلـوا بأنقـرة  يسـيل عليهـم
ماء الفـرات يجيء من أطواد
أين الذين بنـوا فطـال بناؤهـم
وتمتعـوا بالأهــل والأولاد
فإذا النعيـم وكـل مـا يلهى به
يوما يصيـر إلـى بلـى ونفاد
في آل عرف لو بغيت لي الأسى
لوجدت فيهـم أسـوة العـداد
ما بعد زيـد في فتـاة  فرقوا
قتلا ونفيـا بعـد حسـن تآدي
فتخيروا الأرض الفضاء لعزهم
ويزيد رافدهـم علـى الـرفاد

ويحول عدي بن زيد العبادي فكرة الفناء الذي أصاب الأمم القديمة إلى ألحان جنائزية، يعزي بها البشرية فيما يشبه المرثاة الإنسانية، لكل إنسان يبغي الحياة والبقاء خلافا لسنة الحياة، فيقول:
اين أهل الديار من قوم نوح
ثم عاد ومن بعدهم ثمود
أيـن آبـاؤنا وأيـن بنوهم
أين آباؤهم وأين الجدود
سلكوا منهج  المنايا  فبادوا
وارانا قد كان منا ورود