الزيدية الجارودية: كشف النقاب عن معتقدات فرقة أبي الجارود في الإمامة، العصمة، القدر، وصفات الله، وتاريخ انتشارها في اليمن

الزيدية الجارودية: فرقة فقهية وعقدية ذات حضور تاريخي ومعاصر

تُعدّ الزيدية الجارودية إحدى الفرق الفقهية والعقدية البارزة ضمن المذهب الزيدي، وهو أحد فروع الشيعة الأربعة الرئيسية. تُنسب هذه الفرقة إلى مؤسسها، أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي، الذي كان أحد أبرز أتباع الإمام زيد بن علي بن الحسين، حفيد الإمام علي بن أبي طالب وابن الإمام زين العابدين. يُشكل فهم الجارودية جزءًا أساسيًا من فهم التنوع العقدي والتاريخي داخل المذهب الزيدي عمومًا، وخاصة في اليمن حيث تُعدّ ذات تأثير كبير.


المعتقدات المميزة للزيدية الجارودية:

تنفرد الزيدية الجارودية بمجموعة من المعتقدات التي تُشكل هويتها العقدية وتُميزها عن باقي فرق الزيدية، بل وعن المذاهب الإسلامية الأخرى:
  • الإمامة: تُركز الجارودية بشكل كبير على الإمامة، لكنها تُضيق نطاقها بشكل أكبر من بعض الفرق الزيدية الأخرى. فهم يعتقدون أن الإمامة مقصورة في ولد الحسن والحسين من ذرية علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، دون غيرهما من أبناء علي أو غيرهم من قريش. هذا يعني أنهم لا يعترفون بإمامة أي شخص من غير سلالة الحسنين. ويُركزون على مفهوم "الخروج بالسيف" كشرط للإمامة، أي وجوب قيام الإمام بالثورة ضد الظلم.
  • العصمة: تُؤمن الجارودية بمفهوم العصمة، لكنها تقتصره على عدد محدود من الشخصيات. فهم يعتقدون بعصمة:
  1. فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم: ابنة النبي محمد وزوجة الإمام علي.
  2. علي بن أبي طالب: ابن عم النبي وزوج ابنته.
  3. الحسن بن علي: ابن علي وفاطمة.
  4. الحسين بن علي: ابن علي وفاطمة. هذه العقيدة تُقربهم في هذا الجانب من الشيعة الإمامية الاثني عشرية، الذين يُؤمنون بعصمة الأئمة الاثني عشر وفاطمة الزهراء، وإن كان نطاق العصمة عند الجارودية أضيق من الإمامية.
  • القدر (الجبر والاختيار): تُعرف الجارودية بموقفها الواضح من قضية القدر. فهم ينكرون القدر بالمعنى الذي يُشير إلى الجبر المطلق، ويُؤمنون بشدة بمبدأ الاختيار الإنساني. هذا يعني أنهم يُشدّدون على أن الإنسان مخيَّر في أفعاله ومسؤول عنها مسؤولية كاملة، وهو ما يتوافق مع مذهب المعتزلة في هذه النقطة، ويُخالف مذهب أهل السنة والجماعة الذين يُؤمنون بالقدر خيره وشره مع وجود الكسب والاختيار الجزئي للإنسان.
  • صفات الله: فيما يتعلق بـصفات الله تعالى، تتبنى الجارودية منهجاً يُشبه منهج المعتزلة. فهم ينفون صفات الله تعالى بالمعنى التقليدي الذي يُفهم به لدى أهل السنة والجماعة (مثل السمع، البصر، الكلام كصفات زائدة على الذات). يرون أن إثبات الصفات يؤدي إلى التعدد أو التشبيه، وبالتالي يُؤولون هذه الصفات أو يُفسرونها بطريقة تتوافق مع التنزيه المطلق للذات الإلهية.
  • مرتكب الكبيرة: تُؤمن الجارودية بأن مرتكب الكبيرة لا يُعتبر مؤمناً ولا كافراً، بل هو في منزلة بين المنزلتين. هذا المفهوم مستعار مباشرة من المعتزلة، ويُخالف رأي أهل السنة والجماعة الذين يعتبرون مرتكب الكبيرة مؤمناً فاسقاً، ويُخالف رأي الخوارج الذين يُكفّرون مرتكب الكبيرة.

انتشار الزيدية الجارودية:

يُشكل اليمن المعقل الرئيسي للزيدية عموماً والجارودية خصوصاً. تنتشر الزيدية الجارودية بشكل أساسي في الجمهورية اليمنية، وخصوصًا في محافظتي صنعاء وصعدة، والمناطق الشمالية من اليمن. لقد كان للجارودية دور تاريخي كبير في تأسيس وتشكيل الدولة الزيدية في اليمن على مر القرون، وما زال لهم حضور وتأثير في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية هناك.

علاقة الزيدية الجارودية بغيرها من الفرق والمذاهب:

تتسم علاقة الزيدية الجارودية بالفرق والمذاهب الأخرى بتعقيد يُعكس تنوع العقائد الإسلامية وتداخلها:
  • الزيدية: يُنظر إلى الجارودية داخل المذهب الزيدي نفسه بآراء متباينة. فمن قبل بعض الزيدية، خاصة الفرق الأقل غلواً في الإمامة أو في مسائل الصفات والقدر، يُنظر إليهم على أنهم غلاة أو أنهم اقتربوا كثيراً من عقائد الشيعة الإمامية. بينما يُنظر إليهم من قبل البعض الآخر من الزيدية، وربما من بعض المنتمين إليهم، على أنهم يمثلون التيار الأصيل والأكثر التزاماً بمبادئ الإمام زيد، أو حتى يُعتبرون قريبين من أهل السنة والجماعة في بعض الجوانب مثل عدم القول بالبداء (تغير العلم الإلهي) أو الغيبة.
  • الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: يُنظر إلى الجارودية من قبل الشيعة الإمامية على أنهم أقرب إليهم من غيرهم من فرق الزيدية. هذا التقارب يعود بشكل أساسي إلى اشتراكهم في بعض العقائد مثل العصمة لأهل البيت (وإن كان نطاقها أضيق عند الجارودية)، والاعتقاد بوجوب الإمامة في ذرية علي وفاطمة، والتبرؤ من بعض الصحابة. ومع ذلك، هناك اختلافات جوهرية تُميزهم عن الإمامية، أبرزها عدم قول الجارودية بالغيبة (غياب الإمام المهدي)، وعدد الأئمة (الإمامية يؤمنون باثني عشر إماماً، بينما الزيدية بشكل عام لا تحدد العدد)، وشروط الإمامة (الخروج بالسيف عند الزيدية).
  • أهل السنة والجماعة: يُنظر إلى الجارودية من قبل أهل السنة والجماعة على أنهم من فرق الشيعة، وذلك بسبب اعتقاداتهم في الإمامة، والعصمة، وموقفهم من الصحابة (حيث يتبرأون من بعضهم). ومع ذلك، يُقرّ أهل السنة بوجود بعض الاختلافات في العقائد بينهم وبين الشيعة الإمامية التي قد تجعلهم أقرب في بعض الجوانب لأهل السنة، مثل عدم قولهم بالتقية بالمفهوم الإمامي، وعدم وجود الغيبة، واعتمادهم على الاجتهاد الفقهي بشكل أوسع.

شخصيات بارزة من الزيدية الجارودية:

لقد لعبت شخصيات بارزة دوراً محورياً في ترسيخ ونشر فكر الزيدية الجارودية، وخاصة في اليمن:
  • الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (245-298 هـ / 859-911 م): يُعتبر مؤسس الدولة الزيدية في اليمن، وهو من أبرز أئمة الجارودية. وصل إلى اليمن في أواخر القرن الثالث الهجري وأسس إمامة زيدية راسخة، كان لها تأثير كبير على تاريخ اليمن حتى العصر الحديث. يُعرف الهادي بن الحسين بعلمه الغزير وجهاده.
  • الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (561-614 هـ / 1166-1217 م): أحد الأئمة البارزين في الدولة الزيدية باليمن. يُعرف بقوته العسكرية، وتصديه للقوى الأيوبية التي حكمت اليمن، ومحاولاته لتوحيد القبائل اليمنية تحت راية الزيدية. له مساهمات فقهية وعقدية مهمة.
  • الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1019-1087 هـ / 1610-1676 م): كان أحد أئمة الدولة الزيدية في اليمن في فترة متأخرة، ويُعتبر من الأئمة الذين عززوا نفوذ الدولة الزيدية واستقلالها في مواجهة العثمانيين. له مؤلفات في الفقه والعقائد تعكس المنهج الجارودي.

خلاصة:

تُقدم الزيدية الجارودية بذلك نموذجاً للتنوع الفكري داخل الإسلام، وتُبرز كيف يمكن للمذاهب أن تتشكل وتتطور استجابةً لسياقات تاريخية وفكرية مختلفة، مع الاحتفاظ بخصائصها المميزة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال