تحولات التعليم العالي في عصر اقتصاد المعرفة: ضرورة تجاوز حدود التخصص الضيق
شهدت هيكلية وبنى التخصصات العلمية تحولات جوهرية فرضتها حقائق السوق ومتطلبات اقتصاد المعرفة. هذا التغير لم يعد مجرد خيار أكاديمي، بل أصبح ضرورة حتمية للجامعات، خاصة الغربية منها، التي بادرت إلى إعادة تخطيط وتركيب تخصصاتها بهدف إنتاج معرفة أكثر ملاءمة للواقع ومشاكله المعقدة.
أولاً: إعادة هيكلة التخصصات ونشأة المعرفة البينية
فرضت متطلبات السوق الجديدة الحاجة إلى كفاءات قادرة على حل المشكلات الكلية، مما دفع المؤسسات الأكاديمية إلى دمج المعارف وتوليد بُنى جديدة:
- الاتجاه نحو الدمج والتركيب: اتجهت العديد من الجامعات الغربية إلى إعادة التخطيط والتركيب للتخصصات العلمية القائمة. هذا التوجه قاد إلى ظهور محاولات مكثفة لـ الدمج بين بعض التخصصات التقليدية، بهدف إزالة الحواجز المصطنعة بينها وظهور بُنى معرفية جديدة.
- ظهور الأبعاد المعرفية الجديدة: نتيجة لهذه التحولات، ظهرت أنواع متطورة من المعرفة تتسم بـ:
- بينية التخصصات (Interdisciplinary): التي تتطلب تكاملًا منهجيًا بين تخصصين أو أكثر لدراسة ظاهرة واحدة.
- تعددية التخصصات (Multi-disciplinary): حيث تجتمع تخصصات متعددة للعمل على مشكلة دون بالضرورة دمج المناهج.
- متعدية التخصصات (Transdisciplinary): التي تتجاوز حدود التخصصات الأكاديمية لتشمل المعرفة من خارج الوسط الجامعي، أي من الميدان والمجتمع.
ثانياً: انتقال البحث العلمي من المختبر إلى الميدان
يُعد انتقال موقع ممارسة البحث العلمي من داخل معامل الكليات إلى الميدان وفي مقار الشركات التغيير الأهم الذي قاد إلى ظهور هذه الرؤى المعرفية الجديدة:
- نقد البحث المخبري التقليدي: كان البحث داخل معامل الكليات يعتمد على نماذج لمحاكاة مشاكل الواقع. وكان يتم من خلال عزل وانتقاء بعض المتغيرات لدراستها في بيئة معقمة. هذا المنهج جعل الباحثين يتناولون مشكلات تُعتبر مصطنعة إلى حد كبير ولا تعكس تعقيد الواقع.
- ضرورة تناول المشكلة بشكل كلي: قادت عملية انتقال البحث ليتم في الميدان وداخل مواقع العمل إلى ضرورة تناول الباحثين لمشكلات بحوثهم كما هي في الواقع وبشكلها الحقيقي. أصبح لزاماً على الباحثين بحث الظاهرة ككل بدلاً من الاكتفاء بتناول بعض متغيراتها.
- تجاوز حدود التخصص الضيق: فرض هذا التحول على الأكاديميين تجاوز حدود التخصص الضيق، وأكد على ضرورة الانتباه للترابط بين الحقائق والمبادئ العلمية التي تنتمي لعدة مجالات وتخصصات مختلفة.
ثالثاً: تساؤلات حول إعداد الأكاديميين وبنية الجامعات العربية
تطرح هذه التحولات العالمية علامات استفهام كبرى أمام الجامعات المحلية، خاصة فيما يتعلق بأساليب إعداد الكوادر الأكاديمية والهيكلة الداخلية للأقسام:
- التساؤل حول إعداد أعضاء هيئة التدريس: يجب التساؤل عن الأساليب المتبعة في إعداد عضو هيئة التدريس، والتي تعتمد في معظمها على قيامه بـ بحث فردي يكرس الانغلاق التخصصي.
- جدوى المقررات الدراسية العليا: يُثار الشك حول جدوى التعديلات التي تتمثل في إضافة بعض المقررات لطلاب الماجستير والدكتوراه، خاصة إذا كانت هذه المقررات تدعم وتؤكد على تعمق الطالب في تخصصه الدقيق والضيق، بدلاً من أن تساعده على توسيع مدركاته في تخصصات أخرى وبناء جسور المعرفة البينية.
- وضعية الأقسام الأكاديمية وعصر المعرفة: يضع هذا التحول العالمي تحدياً أمام وضعية التخصصات والأقسام العلمية الحالية في الكليات العربية، ومدى مناسبتها لـ إقامة علاقات تحالف وشراكة بين الجامعة والمؤسسات الأخرى، وللتعامل الفعال مع عصر اقتصاد المعرفة.
- الأقسام المنعزلة كعائق: يمكن الجزم بأن الأقسام الأكاديمية الحالية، بما فيها من انفصال وفجوات بينها، تعد من أهم أسباب عدم قدرة جامعاتنا على الاستبصار بشكل كامل لواقع المجتمع ومشكلاته، وبالتالي تضييع فرصة إنتاج حلول معرفية تطبيقية.
يتضح أن مستقبل البحث العلمي والتعليم الجامعي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقدرة على التحرر من أغلال التخصص الضيق وتبني المناهج البينية والتعددية، بما يواكب متطلبات السوق والواقع المعقد.