فخامة اللغة وهيمنة الأيديولوجيا في "قامةٌ تتلعثم" لعيد الحجيلي:
تُعد مجموعة "قامةٌ تتلعثم" للشاعر عيد الحجيلي نموذجًا نصيًا يعكس تحولاً لافتاً في استخدام الشاعر للمفردات والأسلوب، حيث تتجلى فخامة الخطاب بشكل واضح، ويصاحبها صعود ملحوظ للصوت الأيديولوجي مقارنة بأعماله السابقة. هذا المزيج يخلق نسيجًا شعريًا كثيفًا، غنياً بالصور العميقة والترميزات الثورية.
أولاً: مفردات الخطاب وفخامة اللغة
يتميز الخطاب الشعري في المجموعة باستخدامه لمفردات وجمل ذات فخامة لفظية وتركيبية عالية، مما يضفي على النص عمقًا وغرابة جمالية:
- التعمق في المجاز والصور البكر: يستخدم الشاعر مفردات تخرج عن المألوف لتكوين صور مجازية معقدة. فعبارات مثل "صهيلاً توغّلتُ في القافياتِ العذارى" لا تدل فقط على النفاذ إلى الشعر، بل تشير إلى اقتحام إبداعي عنيف ومُتوحّش.
- استدعاء المعاني الروحية والحدسية: تتجلى فخامة الخطاب في دمج الجوانب الروحية والحدسية مع التجربة الشعرية، كما في قوله: "تسربلتُ بالطيفِ بالحدسِ". استخدام "تسربلتُ" (اكتسيت) يدل على تشبع الشاعر بالمعاني غير المرئية.
- تجسيد الأفكار المجردة: يعمد الشاعر إلى تجسيد المفاهيم المجردة كالجسر الذي "تمدُّ خيالاً عتيقاً إلى الأفقِ"، فيجعل الخيال المجهول يمتد جسرًا ملموسًا، في حركة تجمع بين الزمن القديم (عتيقاً) والمستقبل (الأفق).
- التكثيف الشعري العالي: تتسم الجمل بالتركيز والاختزال الشديد للمعنى، مثل "مطيرَ التجلّي" و "الأمنياتِ الهزيلهْ"، حيث تكون كل كلمة مشحونة بطاقة تعبيرية عالية تخدم فكرة الفخامة والتعقيد اللغوي.
ثانياً: صعود صوت الأيديولوجيا والترميز الثوري
على عكس ما قد يكون ظهر في خطابات الشاعر السابقة، يعود صوت الأيديولوجيا بقوة في هذه المجموعة، ليتحول الخطاب الشعري إلى منصة للتعبير عن الرفض والمواجهة:
- التعبير عن الصراع والرفض: يتجسد البعد الأيديولوجي في استخدام مفردات الصراع والمواجهة الثنائية. تظهر تساؤلات الشاعر كأداة نقدية حادة: "أتعبرُ - والظنُّ حافٍ - حصونَ القبيلهْ ؟" و "أتمضغُ أوراقَكَ الصفرَ واللونَ والأغنياتِ الذليلهْ؟". هذه الأسئلة ليست مجرد استفسارات، بل هي إدانة للجمود القبلي والتنازل عن المبادئ.
- الاستعارة الأيديولوجية المركزة: يُعد المقطع الذي يذكر فيه الشاعر "الراقصونَ / على وترِ الأرضِ / والعرضِ / والفرضِ / والرفضِ" مثالاً صارخًا على الكثافة الأيديولوجية. حيث يوظف الشاعر الجناس (الأرض، العرض، الفرض، الرفض) لتشكل سلسلة مترابطة من القيم والالتزامات الأيديولوجية التي يعتنقها أو يرفضها.
- ترميز المدينة والحالة الثورية: يستخدم الشاعر لغة التمرد والهروب "آبقٌ من خطايَ إلى نفقِ الأبجديةِ"، ليعبر عن الانفصال عن الواقع السائد. ويستخدم صورة المدينة السلبية ("وهذي المدينةُ نائمةٌ فـي ساربيلِ ليلٍ سمين / ينظّف أشداقَهُ الزرقَ من لغتي الناحبهْ") ليرمز إلى الجمود والانسحاق أمام السلطة أو الواقع المهيمن، الذي يحاول محو لغة الشاعر الناقدة ("لغتي الناحبهْ").
- طقوس التطهر وإعلان الموقف: تؤكد العبارات مثل "أحرثُ جدرانَهُ الصفُّرَ / أفتحُهُ للهواءْ / ثم أغسلُ دربي ثلاثاً / وأهتفُ باسمِ الجراحِ ثلاثاً" على الطبيعة الطقوسية لعملية التطهير والإعداد للمواجهة. "الهتاف باسم الجراح" يمثل إعلاناً صريحاً لوجود موقف ثوري أو أيديولوجي يعتمد على الوعي بالألم والرفض.
يُظهر الخطاب في "قامةٌ تتلعثم" بالتالي أن الشاعر يدمج بين قوة الأداء اللغوي وفخامته، وبين محتوى مشبع بالإشارات الأيديولوجية، ليقدم نصاً لا يكتفي بالجمالية اللفظية، بل يسعى إلى إحداث صدى أعمق في الوعي الجمعي.