مراحل الدعوة الإسلامية: من السرية التامة إلى الانطلاق العالمي
تُشكل مراحل الدعوة إلى الإسلام تحولاً تاريخياً وعقائدياً حاسماً، ابتدأت بأمر إلهي سري ثم انتقلت إلى الجهر والصدام، وصولاً إلى بناء الدولة في المدينة المنورة. يمكن تقسيم هذه المراحل الأساسية التي مر بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى ثلاث فترات متميزة: الدعوة السرية، الدعوة الجهرية وبداية الصدام، وعرض الدعوة على القبائل والتحضير للهجرة.
1. المرحلة الأولى: الدعوة السرية (ثلاث سنوات)
ابتدأت هذه المرحلة بعدما فتر الوحي فترة وجيزة بعد أول لقاء لجبريل عليه السلام بالنبي في غار حراء، ثم عاود النزول إليه حاملاً الأمر الإلهي ببدء الدعوة. كان لزاماً على الرسول في البداية أن يتخذ مساراً حذراً لتأسيس النواة الأولى للجماعة المؤمنة بعيداً عن أعين قريش المتسلطة.
- الخلفية والأسباب: كان الهدف الأساسي من السرية هو حماية المؤمنين الأوائل الذين كانوا قلة مستضعفة، وتجنب المواجهة المباشرة مع قريش التي كانت تتمسك بشدة بعبادة الأصنام وتخشى على مصالحها الاقتصادية والاجتماعية من الدين الجديد.
- منهج الدعوة وأول المسلمين: بدأ النبي دعوته ضمن الدائرة الأقرب والأكثر ثقة:
- أهل بيته: كانت السيدة خديجة بنت خويلد أول من آمنت به مطلقاً، تلاها ابن عمه علي بن أبي طالب، ومولاه زيد بن حارثة.
- السباقون إلى الإسلام (السابقون الأولون): ومن أشهرهم صديقه أبو بكر الصديق الذي كان له دور كبير في إسلام كثير من الصحابة البارزين مثل عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
- المستضعفون: ومنهم بلال بن رباح، وعمار بن ياسر ووالداه ياسر وسمية (رضي الله عنهم).
- الإنجاز والنتائج: استمرت هذه الفترة ما يقارب ثلاث سنوات، وخلالها تكونت نواة الجماعة المؤمنة التي بلغ عددها نحو أربعين رجلاً وامرأة، تعلموا أصول الدين وتدارسوا القرآن في دار الأرقم بن أبي الأرقم في سرية تامة.
2. المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية ومواجهة قريش
بعد أن ترسخت النواة الإيمانية، جاء الأمر الإلهي للرسول بالجهر بالدعوة، معلناً بداية الصراع العلني بين الإسلام والجاهلية.
أ. إعلان الدعوة وبدء الصدام:
- الجهر العلني: امتثالاً لأمر الله، صعد النبي على جبل الصفا وجمع بطون قريش، عارضاً عليهم الدعوة ومحذراً إياهم من عذاب الله.
- المعارضة الفورية: كان الرد الأول والأقسى من أقرب الناس إليه، وهو عمه أبو لهب، الذي واجهه بالاستنكار والتهديد قائلاً: "تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟". وكان الرد الإلهي على هذا العداء هو نزول سورة "المسد" (أو سورة اللهب).
ب. موقف قريش واستراتيجية الرفض:
تصدت قريش للدعوة بكل ما أوتيت من قوة خوفاً على مكانتها الدينية والسياسية والتجارية التي كانت تتمحور حول الكعبة والأصنام. تنوعت أساليب مقاومتها:
- الإغراء والمساومة: حاولت قريش عرض الثروة والزعامة والزواج على النبي مقابل تركه للدعوة، فكان رده الحاسم: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته".
- العنف والتعذيب: لجأت إلى تعذيب المستضعفين من المسلمين، مثل تعذيب بلال وياسر وسمية (التي كانت أول شهيدة في الإسلام)، وإيذاء النبي نفسه بالقول والفعل.
- الحصار الاقتصادي والاجتماعي (شِعب أبي طالب): فرضت قريش حصاراً قاسياً على بني هاشم وبني المطلب لمدة ثلاث سنوات، حُبسوا خلالها في شِعب أبي طالب، ومنعت عنهم المؤن والتعامل، مما أدى إلى معاناة شديدة.
ج. عام الحزن والبحث عن نصرة جديدة:
انتهى الحصار، لكن تبعته أحداث مفجعة عُرفت باسم عام الحزن (السنة العاشرة للبعثة)، حيث توفي اثنان من أعظم الداعمين للنبي:
- وفاة السيدة خديجة: زوجته وحبه الأول، التي كانت السند المعنوي والمادي له.
- وفاة عمه أبي طالب: الذي كان حاميه السياسي وحصنه المنيع ضد بطش قريش.
- الذهاب إلى الطائف: بعد فقدان الحماية، ذهب النبي إلى الطائف بحثاً عن نصرة جديدة، لكن أهلها رفضوا دعوته رفضاً قاسياً وأغروا به الأطفال والعبيد ليرموه بالحجارة، مما زاد من محنته.
د. رحلة الإسراء والمعراج (التكريم الإلهي):
للتخفيف عن حزن النبي وتكريمه بعد سنوات الشدة، حدثت معجزة الإسراء والمعراج، وهي رحلة ليلية مباركة:
- الإسراء: الانتقال من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، حيث صلى إماماً بالأنبياء.
- المعراج: الصعود إلى السماوات العلى، حيث رأى من آيات ربه الكبرى، وشهد العجائب، وفي هذه الرحلة فُرضت الصلاة كعمود للدين.
- موقف قريش: كذبت قريش بهذه الحادثة، بينما صدّقها المؤمنون الصادقون وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، الذي لُقب بـ "الصديق" لتصديقه المطلق.
3. المرحلة الثالثة: عرض الدعوة على القبائل والتحضير للهجرة
أدرك النبي أن مكة أغلقت أبوابها تماماً في وجه الدعوة، فغير استراتيجيته وبدأ يعرض نفسه والدين الجديد على الوفود والقبائل التي كانت تفد إلى مكة في مواسم الحج والتجارة.
- لقاء الخزرج (11 للبعثة): التقى النبي بستة رجال من قبيلة الخزرج من يثرب (المدينة المنورة)، فآمنوا به وعادوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإسلام.
- بيعة العقبة الأولى (12 للبعثة): في العام التالي، حضر اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج (يثرب) والتقوا بالرسول عند العقبة وبايعوه بيعة سميت بـ بيعة النساء، تعهدوا فيها على الإيمان والالتزام بأصول الإسلام. أرسل معهم النبي مصعب بن عمير لتعليمهم القرآن وتفقههم في الدين، فكان أول سفير للإسلام.
- بيعة العقبة الثانية (13 للبعثة): في العام الذي تلاه، جاء وفد أكبر يضم ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين من أهل يثرب، فبايعوه بيعة حاسمة عند العقبة (بيعة الحرب)، تعهدوا فيها على إتباعه ونصرته والدفاع عنه وحمايته كما يحمون نساءهم وأبناءهم. شكلت هذه البيعة نقطة تحول كبرى، حيث توفرت قاعدة آمنة للدعوة، وبدأ التحضير فعلياً للهجرة النبوية التي مهدت لإقامة الدولة الإسلامية.