الجهود الدبلوماسية لتيودور هرتسل لتحقيق برنامج بازل: من الباب العالي إلى مشروع أوغندا
عقب انعقاد مؤتمر بازل عام 1897، الذي وضع حجر الأساس لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، انطلق تيودور هرتسل في جولة دبلوماسية مكثفة ومعقدة. كانت هذه الجهود تهدف إلى تحويل قرارات المؤتمر، التي عُرفت باسم برنامج بازل، إلى حقيقة سياسية عبر الحصول على اعتراف دولي أو موافقة من السلطة الحاكمة (الدولة العثمانية).
أولاً: محاولات كسب السلطة العثمانية (إسطنبول)
كانت الدولة العثمانية، بصفتها الحاكم الشرعي لفلسطين، هي الهدف الأول والحيوي لجهود هرتسل. تركزت محاولاته على استغلال الضعف المالي للدولة:
- المساومة المالية مقابل الامتياز: قبل فترة وجيزة من مؤتمر بازل، بدأ هرتسل سلسلة من الاتصالات مع السلطات العثمانية في العاصمة إسطنبول. كانت محاولته قائمة على مبدأ المقايضة الاستراتيجية: إقناع السلطات بمنح اليهود امتيازًا يسمح لهم بإقامة مستوطنات في فلسطين، مقابل تعهد هرتسل بتوفير الأموال اللازمة لتسديد ديون الدولة العثمانية الكثيرة والخانقة.
- الوساطة الألمانية والرفض: سعى هرتسل في الوقت ذاته لاستخدام نفوذ دولي، فعمل على إقناع موظفين ألمان للتدخل والتوسط لدى الحكومة العثمانية لتسهيل تحقيق هذه الغاية. ومع ذلك، قوبلت هذه المحاولة بالرفض من الجانب الألماني.
- لقاء السلطان عبد الحميد الثاني (1901م): بعد سلسلة طويلة من الضغوط، والوسطاء، وتقديم الرشاوى لموظفي الحكومة العثمانية، نجح هرتسل أخيراً في الالتقاء بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1901م.
- الشروط العثمانية القاسية: وافق السلطان على مبدأ الاستيطان اليهودي في أراضي السلطنة، لكنه وضع شروطاً حاسمة تتعارض مع الهدف الصهيوني المركزي:
- يجب أن تكون حركة الاستيطان موزعة في كافة ولايات السلطنة، وليس محصورة في فلسطين فقط.
- يجب أن يكون اليهود مواطنين عاديين بدون امتيازات خاصة، وأن يخضعوا مباشرة لحكم السلطان.
- تُقدَّم هذه الشروط مقابل تسديد الديون. لكن هرتسل لم يكن باستطاعته الموافقة عليها، لأن الهدف الأساسي للحركة الصهيونية كان إقامة وطن قومي ذي صفة خاصة في فلسطين تحديدًا.
ثانياً: التوجه نحو القوى الأوروبية (بريطانيا وروسيا)
بعد فشل المفاوضات مع الباب العالي، حول هرتسل اهتمامه إلى القوى الأوروبية الكبرى، خاصة بريطانيا وروسيا، بحثًا عن دعم أو أرض بديلة مؤقتة:
- الانفتاح على بريطانيا ومؤتمر لندن: لم ييأس هرتسل، بل توجه نحو الإنجليز والروس. عقد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن، وتم استدعاء هرتسل لإلقاء محاضرة حول الهجرة اليهودية أمام لجنة حكومية بريطانية خاصة أُقيمت لهذا الغرض.
- مشروع العريش: اقترحت بريطانيا أولاً توطين اليهود في منطقة العريش بمصر. فشل هذا المشروع لأسباب لوجستية وبيئية تتعلق بشح المياه.
- مشروع أوغندا: على إثر فشل مشروع العريش، طرح الإنجليز فكرة إقامة دولة يهودية في أوغندا في أفريقيا. رغم أن هذا المقترح لم يكن يفي بالهدف الصهيوني (فلسطين)، إلا أن هرتسل اعتبره حلاً مؤقتاً.
- المعارضة الداخلية ومشروع أوغندا: واجه هرتسل معارضة شديدة للغاية داخل الحركة الصهيونية، خاصة في جلسات المؤتمر الصهيوني السادس عام 1903م. اعتبرت قطاعات واسعة من اليهود أن التنازل عن فلسطين غير مقبول.
ثالثاً: مساعي الاعتراف الروسي
في ذات الوقت، سعى هرتسل لكسب الدعم الروسي لتعزيز شرعية الحركة الصهيونية عالمياً:
- لقاء المسؤولين الروس: أجرى هرتسل لقاءات مع عدد من المسؤولين في حكومة القيصر الروسي بهدف نيل اعتراف الحكومة الروسية الرسمي بالحركة الصهيونية في روسيا، مما كان سيسهل عمل المنظمات الصهيونية في الإمبراطورية التي كانت تضم عدداً كبيراً من اليهود.
- فشل لقاء القيصر: رغم نجاحه في لقاء المسؤولين، فإن مساعيه للقاء القيصر الروسي نفسه لم تنجح.
خاتمة: أهمية التحركات الدبلوماسية
رغم أن جهود هرتسل الدبلوماسية المباشرة لم تسفر عن موافقة فورية على إقامة الدولة في فلسطين في حياته، إلا أنها كانت ذات أهمية قصوى:
- نجحت هذه التحركات في إثارة الفكرة الصهيونية وضرورة إقامة دولة لليهود في فلسطين على المستوى الدولي الرسمي.
- وضعت الحركة الصهيونية على خريطة الدبلوماسية العالمية وجعلتها قوة سياسية تُحسب حساباتها للقوى العظمى (بريطانيا، روسيا، وألمانيا).