حماية حقوق الأفراد والأسرة.. القذف بما يُسيء إلى أفراد الأسرة لا تحميه منطلقات الحرية الإعلامية من المساءلة والجزاء

لا يجوز القذف بما يُسيء إلى أفراد الأسرة حتى لا يتسبب ذلك في تفكك الأسر وانهيار البيوت ويكون القاذف عرضة للجزاء المقرر شرعاً إن لم يثبت ما قذف به، ولا تحميه منطلقات الحرية الإعلامية من المساءلة والجزاء.
يقول الله تعالى: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* "([1]).
وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ*" ([2]).
ورمي المحصنات هو اتهام العفيفات من حرائر المسلمين برميهن بالزنى دون إثبات ذلك بأربعة شهود([3])، ويدخل في هذا المعنى قذف الرجال أيضاً([4])، والحكم في الآية الثانية عام ينطبق على كل من قذف مؤمنة مع أنها نزلت في السيدة عائشة رضي الله عنها، فمن قذف أية مؤمنة فهو ملعون في الدنيا والآخرة إلا أن يتوب قبل وفاته([5]). ومع أن الرمي هنا معنوي فقد رتب الله عليه عقاباً جسدياً وعقاباً أدبياً وعقاباً دينياً، فالأول هو الجلد والثاني هو عدم قبول الشهادة والثالث هو الوصم بالفسق، وكل ذلك إنما هو تعظيم لحرمات المسلمين وقوة في الردع عن حرماتهم ، وذهب مالك ومعه أدلة قوية إلى أن التعريض بالسب إن حصل منه معرة كان كالتصريح وفيه الحد إن كان بالزنى أو التعزير إن كان دون ذلك([6]).
قال الزمخشري: "والقذف يكون بالزنى وبغيره ويشترط لغيره شاهدان وفيه تعزير"([7])، أي إن كان القذف بما دون الزنى كالسرقة وشرب الخمر. قال أبو حيان "وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشاركونهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس وفيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن، ثم قال والظاهر انه لا تقبل شهادته أبداً وإن كذب نفسه، وهو نهى جاء بعده أمر فكما أن حكمه الجلد فكذلك حكمه رد شهادته وإلى هذا القول ذهب شريح القاضي والنخعي وابن المسيب وابن جبير والحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه"([8]).
قال سيد قطب: "إن اتهام الحرائر ثيبات أو أبكاراً بتهمة الزنا دون دليل قاطع يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بريئة أو بريئاً بتلك التهمة النكراء ثم يمضى آمناً فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالإتهام وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه وكل رجل شاك في أصله وكل بيت فيها مهدد بالإنهيار وهي حالة من الشك والقلق والريبة لا تطاق لهذا وصيانة للأعراض من التهجم ، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم، شدد القرآن الكريم في عقوبة القذف فجعلها قريبة من عقوبة الزنى، والجماعة المسلمة لا تخسر بالسكوت عن تهمة غير محققة كما تخسر بشيوع الإتهام والترخص فيه وعدم التحرج من الإذاعة به وذلك فوق الآثار التي تترتب عليها في حياة الناس وطمأنينة البيوت"([9]).
وذكر العلماء أن صفة الفسق ملازمة له حتى وإن كان صادقاً في نفسه إذا لم يثبت ما قذف به  لأنه ارتكب جريمة اشاعة الفساد المحدود على نطاق واسع([10]).
ومن خلال أقوال المفسرين في معاني هذه الآية يتبين إهتمام القرآن بالحقوق الخاصة وحمايته للحريات الفردية وفرضه الجزاء على من تجاوز تلك الحقوق دون مبرر شرعي وأن اثر ذلك على النساء أقوى لدورهن المؤثر في قيام الأسر وسلامة النسل وأعراض الرجال . كما أشار سيد قطب إلى الأثر السلبي للقذف على سلامة البيوت وقيام الأسر وأن الستر أولى حتى وإن كان القاذف متيقناً لأنه إن ادعى ذلك ولم يثبته فهو فاسق. فإذا كانت هذه العقوبات الشديدة وتلك المحاذير القوية في حق أي فرد استهان بأعراض الناس وقذفهم رغم محدودية الإنتشار فإن القذف الصريح أو التعريض به عبر وسائل الإعلام الجماهيرية ذات الإنتشار الواسع جريمة أشد نكراً وأفتك ضرراً وآكد في إنزال العقوبة بالمتسببين دون هوادة بل إن القذف وإن كان صحيحاً مع وجود الشهود لا يجوز أن يمرر عبر وسائل الإعلام فليست الفائدة من وراء ذلك سوى إشاعة الفاحشة ونشر الرذيلة إذ يمكن معالجة مثل هذه القضايا وإقامة حكم الله داخل أروقة المحاكم بعيداً عن عدسات الكاميرا والمايكروفونات، وما نشر مثل هذه الأمور مع صحتها وثبوتها إلا فسق وإشاعة للفاحشة، ويجب على الإعلامي الذي يحترم مجتمعه ويقدر أمته أن يقف في طريق نشر مثل هذه الأمور مبتدئاً بنفسه ومبتعداً عن توجيه التهم بهذه الوسائل واسعة الإنتشار.
([1]) سورة النور، الآية 4.
([2]) سورة النور، الآية 23.
([3]) الخالدي، مختصر تفسير الطبري، ج5 ص515.
([4]) ابن العربي، أحكام القرآن، ج3، ص258. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج12 ص172.
([5]) الخالدي، مختصر تفسير الطبري، ج5 ص535- 536.
([6]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5 ص173- 174.
([7]) الزمخشري، الكشاف، ج3، ص217. محمد شاهين البيضاوي ، تفسير البيضاوي مع حاشية محي الدين شيخ زاده، دار الكتب العلمية، لبنان ط1، 1999م، ج6 ص194.
([8]) أبو حيان، البحر المحيط، ج8 ص12- 14.
([9]) سيد قطب ، في ظلال القرآن، ج5 ص62- 63.
([10]) أبو الأعلى المودودي، تفسير سورة النور، مؤسسة الرسالة، ص90.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال