مدرسة الديوان: وحدة الوجدان وتباين مناهج التعبير الذاتي
تُعد مدرسة الديوان واحدة من الحركات التجديدية الأكثر تأثيراً في الشعر العربي الحديث، وقد تأسست على يد ثلاثة من أبرز رواد الأدب والفكر في مصر، وهم: عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري. على الرغم من إجماعهم على مبدأ فلسفي واحد، وهو أن الشعر وجدان، إلا أن اختلاف مناهجهم في التعبير عن هذا الوجدان أدى إلى تمايز وتفرد واضح في مضامين إبداعهم الشعري، مما جعل "الديوان" مدرسة تقوم على شعر الشخصية الفردية المتفردة لا على التجانس.
تباين مناهج الرواد في التعبير عن الوجدان:
رغم إيمانهم المشترك بأن الشعر يجب أن يكون انعكاساً صادقاً للمشاعر الداخلية، فإن طريقة كل شاعر في مقاربة هذا الوجدان كانت مختلفة جوهرياً، ويمكن تفصيل هذا التباين كالتالي:
1. عباس محمود العقاد: المفكر الذي يتسلح بالوجدان
تميز العقاد بكونه مفكرًا قبل أن يكون شاعرًا، مما أثر بشكل عميق على شعره:
- سيطرة العقل على الشعور: غلب لديه التفكير والمنطق العقلي على الانفعال الوجداني والشعور المباشر. كان الوجدان عنده مُصفّى عبر منخل العقل.
- نماذج التعبير العقلي: يظهر هذا في قصائده، مثل قصيدة "الحبيب"، التي يطغى فيها المنطق العقلي والتحليل الفكري على الجانب الوجداني الداخلي، حيث يعالج المشاعر كموضوع للتأمل والتحليل بدلاً من الانغماس فيها.
2. إبراهيم عبد القادر المازني: الانفعال المباشر والصدق الفطري
كان المازني أكثر تلقائية في التعامل مع الشعر والوجدان:
- الطبيعة المباشرة للشعر: رأى أن طبيعة الشعر عنده تنطلق من النفس بصورة طبيعية وفطرية، دون تكلُّف أو تعقيد.
- الانفعال دون تعمُّق عقلي: تعامل المازني مع الأشياء والأحداث تعاملاً مباشراً أساسه الانفعال السريع والمباشر، دون تدخل كبير من العقل أو توغل في أعماق النفس البشرية. كان شعره أقرب إلى تسجيل اللحظة الشعورية الصادقة.
3. عبد الرحمن شكري: الاستبطان والتوغل في الذات
كان شكري الأكثر عمقاً وتأثيراً بالرومانسية في تعامله مع الذات:
- التأمل والاستبطان: انصب اهتمامه على التأمل في أعماق الذات الإنسانية، وانصرف عن الاهتمام بالعقل الخالص كأداة للتحليل. كان يرى أن الشعر هو رحلة إلى الداخل.
- المعاني القلبية: آمن بأن المعاني الشعرية هي جزء أصيل من النفس، تُدرك بـالقلب وبالحدس الوجداني لا بالعقل المجرد.
- نتيجة منهجه: أدى هذا المنهج إلى نشأة شعر الاستبطان واستكناه أغوار الذات لديه، حيث سعى إلى كشف مكنونات النفس الإنسانية وإظهار حالاتها المعقدة.
جوهر النزعة الذاتية في مدرسة الديوان:
يتضح مما سبق أن الميزة الأهم للشعر الذاتي عند جماعة الديوان لم تكن دعوة إلى إبداع شعر متشابه في وسائله وغاياته، بل كانت دعوة إلى التمايز والتفرد والتغني بشعر الشخصية. كان الإبداع الذاتي يعني أن لكل شاعر صوته ومنهجه الخاص في التعبير عن وجدانه، حتى ولو تشاركوا في المبدأ الأساسي.
ولعل مرجع هذا الاهتمام الكبير بـالعنصر الذاتي والتوجه نحو شعر الشخصية يرجع إلى عاملين رئيسيين ارتبطا بالظروف السياسية والاجتماعية في مصر آنذاك:
- إعادة الاعتبار للذات المصرية: كانت الذات المصرية تعاني من حالة من الانهيار التام والتبعية نتيجة للاحتلال الأجنبي. كان التغني بالشخصية الفردية والتركيز على الوجدان بمثابة محاولة لإعادة بناء الاعتبار والكرامة الذاتية للوطن والأفراد.
- انتشار الفكر الحر: شهدت تلك الفترة انتشاراً واسعاً للفكر الحر بين مثقفي ومبدعي مصر. وقد وجد هؤلاء الشعراء في التعبير عن أنفسهم – بكل ما تحمله من تعقيدات ومشاعر – سبيلاً لـالتأكيد على الذات باعتبارها قيماً إنسانية ذات وزن وتأثير، ومواجهة للجمود والقوالب الشعرية القديمة.
