الحجاج الشعري.. كل الأوجه البلاغية في جميع الجهات إواليات حجاجية يوظفها الشاعر والخطيب وغيرهما

  نميز، في البدء، بين البرهان (Démonstration) التقليدي والمنطق الصوري من جهة، وبين الحجاج (Argumentation) من جهة أخرى.

ذلك أن الأولين ثابتان ولا زمنيان، بحيث يعرضان قضايا ذات حقائق ثابتة يراد منها خلاصة معينة.
أما الثاني باعتباره مجموعة من الإواليات المقالية، فيمتاز بالدينامية والتفاعل الزمنيين.

إن فعل الحجاج يرتبط بمنفذ يتوجه إلى متلق، يطور أطروحاته ويغيرها حسب السياق قصد تغيير أطروحات المتلقي الذي تبقى له، مع ذلك، حرية الاقتناع.

و بذلك، نعتبر كل الأوجه البلاغية في جميع الجهات إواليات حجاجية يوظفها الشاعر والخطيب وغيرهما.
وهكذا، يشيد الحجاج التصاعدي في الخطاب الشعري بواسطة الاستدلال (الاستنباطي أو الاستقرائي).

فشاعر الغزل، مثلا في الشعر القديم، يحاول إقناع محبوبته بحبه، كما أن شعراء "التيارات السياسية" في الشعر العربي (خوارج وشيعة وأمويون...) يدافعون عن أطروحتهم، ناهيك عن أن الشعر المغربي دافع عن مواقف الدول المتعاقبة على الحكم وناصر فتوحاتها بواسطة الاستدلال بنوعيه.

وبذلك، يمكن الحديث عن استدلال استنباطي (القياس البلاغي، فاركا 1970) ينطلق من الكل نحو الجزء ويرد ضمنيا في القصيدة من خلال التشبيه والاستعارة والمناقضة وغيرها مع توظيف أدوات الاتساق التركيبية والبلاغية.
ومن أمثلة هذا الاستدلال المقطع (36).

Mignonne, allons voir la rose qui est pareille à vous . Elle s’est malheureusement fanée. Donc, puisque tel est également  le sort qui vous attend, profitez de la jeunesse [1]

(36)-
   لقد انطلق الحجاج التصاعدي، في هذه الجمل، من مقدمة كلية هي المشابهة بين المرأة والوردة بواسطة المقارنة التي تنشط المقوم [+ ذبول] بإسقاطه على الوحدة الدلالية 'Mignonne ' مما نتج عنه تنشيط المقوم الخفي [+ شيخوخة].

ومن ثم، استلزمت هذه المشابهة - المنطلق استنباط خلاصة - هدف بواسطة الأداة الاتساقية (Donc)، هي ضرورة التمتع بالشباب. وقد تم تنضيد مكونات الزمن التصاعدي الحجاجي بشكل موسع كما يلي:
مقدمـة أولى
الــوردة نظيــرة المـرأة
الوردة يـصـيـبها الـذبول
 مقدمـة ثانية
عـلى المـرأة، إذن، التمتع بالـشـباب

استنتــاج
   بيد أن الاستدلال قد يتخذ في الخطاب الشعري صبغة الاستقراء، بحيث ينطلق الشاعر من الخاص نحو العام، ومن الجزء نحو الكل وفق مقصدية الاعتبار المستخلصة من حكاية مقتبسة من التاريخ أو الأسطورة مما يشكل منظورا ذا قيمة تمثيلية.

وهذا ما ينعت بالاستدلال بواسطة المثال ( مولينو وطامين 1988).
وعليه، يمكن اعتبار التناص أهم مؤشرات هذا الاستدلال التطوري.

فمن نماذجه الشعرية قصيدة طويلة لعبد العزيز الملزوزي يدافع فيها عن غزوات يعقوب المنصور المريني بالأندلس انطلاقا من الاستدلال - المثال الذي يستند إلى التناص مع الدين والتاريخ للوصول إلى عبرة - خاتمة هي: إن كل شاعر فان ويبقى مدح بني مرين كتابا يخلد أمجادهم.

غير أن القراءة العمودية لمقصديات النص تكشف عن عبر متعددة يراد تقريرها في الخطاب من قبيل: من ناصر الدين نصره الله، و الأصل في الدين جهاد، وبنو مرين ينسخون ما قبلهم... إلخ.

وهكذا، نقسم الاستدلال - المثال، في القصيدة إلى الأقسام التالية[2]:
أ- إثبات علم الله وقوته: تشاكل الوحدانية.

تمثل هذا التشاكل الأبيات (من 4 إلى 13) التي تراكم الوحدات الدلالية 'خلق'، 'صورهم'، 'واحد'، 'تقدس'، 'يحيط'، 'يعلم'، 'أنشأ'، 'أجرى'، 'سخر'..

إن البيت البؤرة المكثف لهذا الاستدلال الديني هو:
37)-
ويعلم في الأراضي السبع علما
يحيـط بعـد حصبـاهـا حسابا
ب- إثبات أطروحة الإسلام هو الجهاد: تشاكل الجهاد.

تمثل الأبيات ( من 14 إلى 32) تشاكل الجهاد إذ تتراكم الوحدات الدلالية 'حرضنا'، 'قتل الأعادي'، 'جهاد'، 'نبذل'، 'طعان'، 'ضراب'، 'تفنى'، وهي مساوقة للاستدلال التاريخي بالنظر إلى استدعاء أسماء الأعلام التي تضمر العنصر ضم: [+ جهاد]، و تتمثل في 'ابن عوف'، 'ابن جراح'، 'سعد'، 'زبير'، 'طلحة'...

إن البيت - البؤرة المختزل لهذا الاستدلال هو:         
(38)-
وهـم قـد جاهدوا في الله حقا
وسـلوا فـي عـداتهم الذبـابا
ج- إثبات تفرد بني مرين بالجهاد في بلاد المغرب: تشاكل المجد.
تؤطر هذا التشاكل الوحدات الدلالية 'انسلبت'، 'أرانا'، ' العجب'، 'العجابا'، 'الصعابا'، 'جاز'، 'مجتهد' 'القطب'، 'غزو'، 'عز'، 'الصدق'...

إن ما ينتظم هذه الوحدات جهة خطية تتوالى فيها الأبيات الشعرية ( من 33 إلى 129) التي تقابل بين حقلين دلاليين؛ حقل الكفر وحقل الإيمان، يؤشر عليهما التقابل بين ' الفنش ' / ' يعقوب '...

وقد مثل الاستدلال الثالث البيت الشعري التالي:
39
ولـم نـر قبلـه فــي العصــر ملكا
أرانـا فـي العـدا العجـب العجـابا

ومن هنا، فإن ما يعزز بناء الاستدلال في النص انعكاس مختلف الجهات على الجهة المطاطية الموسومة بالزمن التصاعدي الحجاجي. ذلك أن الشاعر راكم تشاكلات الصوامت ( الزهر- الزهر) وتشاكل الصوائت ( شعابا - ضرابا) في الجهة الدائرية، كما راكم القلب والحذف في الجهة المتشابكة ( سبايا - سلابا)... وعليه، خلص الشاعر إلى نتيجة كبرى هي أن بني مرين يستحقون لقب حزب الله الحامي للإسلام، فيستحقون بذلك المدح وتخليد مجدهم في الشعر(الأبيات من 130 إلى آخر النص).

لقد تم بناء الزمن التصاعدي الحجاجي في القصيدة وفق قاعدة توسيعية يؤطرها، ظاهريا، الإطار (Frame): الإسلام، بحيث إن وحدانية الله تقتضي الجهاد ضد الكفر، وكل مجاهد بالغ المجد لا محالة.

غير أن هذا الاستدلال يخفي مقصدية الولاء للحكم المريني التي تستدعي التودد والحظوة مما يستلزم بناء الحجاج من جديد.
وعليه، تشهد البيات الثلاثة الأخيرة على ماسبق ذكره:
(40)-
مرين لقد مدحتكم فوفوا
لمــا دحكم ببغيته الثوابا
وقد ورخت دولتكم وصارت
حلى يحدو بها الحادي الركابا
وكل منظم شعرا سيــفنى
ويبقـى فيكم مدحي كتابا

وهكذا، شكل المبحث الثاني (الأسس البلاغية) من هذا الكتاب تحديدا للمفاهيم الدلالية والتداولية والأسلوبية التي ترتبط بوظائف الذهن البشري مما يجعلها مجالا خصبا لنمو الذكاء البلاغي واكتساب كفايات تأويلية نسقية.

وقد قدمنا تلك المفاهيم مع تظهيرها بواسطة أمثلة حتى يتمكن الأستاذ من اختيار التأويل الأنسب لمستوى التلاميذ ولمقصديته الخاصة.

ومن ثم، نصل إلى المبحث الثالث لتقديم نماذج ديداكتيكية لكفايات الذكاء البلاغي ضمن نسق تتفاعل خلاله مختلف الآليات التربوية _المعرفية والبلاغية.

وفي هذا السياق نشير إلى أن الكفايات المستهدفة خلال المرحلة  الثانوية التأهيلية، و الخاصة بمادة اللغة العربية ترتبط أساسا بتقنيات محاورة النصوص وفهمها وتأويلها قصد التواصل مع الأفراد والعالم ضمن نسق معرفي متفتح ومتسامح ومعزز لهويتنا المغربية بمختلف أبعادها.

وبذلك، حددنا أربع كفايات ينشطها الذكاء البلاغي، وهي:
- الكفاية التداولية وخلفيتها المعرفية الكبرى: الكفاية التواصلية.
- الكفاية التفسيرية وخلفيتها المعرفية الكبرى: الكفاية المنهجية والكفاية الثقافية.
- الكفاية التأويلية وخلفيتها المعرفية الكبرى: الكفاية المنهجية والثقافية كذلك.
- الكفاية المقالية وخلفيتها المعرفية: الكفاية المنهجية والكفاية التواصلية.

[1]- راجع مولينو وطامين (1988)، ص 137.
[2]- راجع القصيدة في النبوغ المغربي، ص ص. 723 - 732، وفي الأنيس المطرب لابن أبي زرع، ص ص 364- 372. 

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال