زكريا إبراهيم ومشكلة البنية.. نسق من التحولات له قوانينه الخاصة: الكلية، التحولات، التنظيم الذاتي

لعل أول العرب الذين كتبوا في البنيوية هو المفكر (زكريا إبراهيم) المعروف بإبداعاته الفكرية في المجال الفلسفي، ولعل كتابه (مشكلة البنية) من أوائل الكتب العربية التي وُضعت في التنظير للبنيوية، فقد أصدره عام 1976 انطلاقاً من أن البنيوية أصبحت "اللغة الشارحة لكل حضارتنا المعاصرة"، وأن إنسان القرن العشرين قد بدأ يعرف ذاته بأنها مجرد (بنية)، وأنه هو نفسه إنسان (دال)، صانع معانٍ.

وبداية يتساءل الباحث: هل البنيوية علم؟ أم فلسفة؟ أم هي مجرد منهج للبحث العلمي؟.

فيرى أنها منهج للبحث العلمي، اعتماداً على آراء روادها: (شتراوس) الذي أعلن أن البنيوية ليست فلسفة وإنما هي منهج للبحث العلمي، و(جان بياجيه) الذي يقول إن البنيوية منهج لا مذهب.

ثم يُعرّف الباحث (البنية) لغة واصطلاحاً بأنها (نظام أو نسق من المعقولية). فهي (صورة) الشيء، و(هيكله)، و(القانون) الذي يفسر تكوينه.

يقول جان بياجيه: "إن البنية هي نسق من التحولات له قوانينه الخاصة باعتباره نسقاً"، وإن هذه البنية تتسم بخصائص ثلاث: الكلية، والتحولات، والتنظيم الذاتي.

(فالكلية) هي تكوين البنية من عناصر داخلية خاضعة للقوانين المميزة للنسق. وليس المهم في البنية هو (العنصر) أو (الكل) الذي يفرض نفسه على العناصر، وإنما هو (العلاقات) القائمة بين هذه العناصر، أو عمليات تكوين (الكل) باعتبار هذا (الكل) مكوناً من تلك (العلاقات).

و(التحولات) تعني أن هذا (الكل) ينطوي على دينامية ذاتية تتألف من سلسلة من التغيرات الباطنية التي تحدث داخل (النسق) أو (المنظومة) خاضعة في الوقت نفسه لقوانين (البنية) الداخلية.

و(التنظيم الذاتي) هو أن في وسع هذه (البنيات) تنظيم نفسها بنفسها، مما يحفظ لها وحدتها، ويكفل لها المحافظة على بقائها، ويحقق لها نوعاً من (الانغلاق الذاتي).

لكن هذا الانغلاق لا يمنع (البنية) الواحدة من أن تندرج تحت (بنية) أخرى أوسع.
ثم يتحدث الباحث عن أعلام البنيوية ويعرض إنجازاتهم: الألسني (سوسير)، والأنثربولوجي (شتراوس)، والنفساني (لاكان)، والماركسي (ألتوسير).

وهم الذين شادوا البنيوية في أربعة علوم، وأغفل الحقلين الأدبي والنقدي، ولو أنه أضافهما لكان كتابه أشمل وأوفى.
ولكنه- كفيلسوف- اكتفى بالمفكرين في حقول العلوم المختلفة، دون أن يجعل الأدب والنقد واحداً منها.

والواقع أن كتابه هذا يصلح أن يكون مقدمة للمنهج البنيوي بعامة. وما يهمنا- كمهتمين بالنقد الأدبي- هو منهج هؤلاء الأعلام الذين تحدث عنهم، والذي يوحد بينهم، على الرغم من اختلاف الحقول العلمية التي عملوا فيها.

ذلك أن البنيوية هي ابستيمولوجيا (نظرية في المعرفة) لا إيديولوجيا (موقف عقائدي).
وهذا يعني أنها محاولة علمية منهجية لدراسة الظواهر من وجهة نظر (البنية) و(النموذج) و(البناء الصوري) و(العلاقات) الباطنية المكونة لموضوع ما.

ولعل هذا ما جعل المفكر الفرنسي المعاصر (جيل دولوز) يقول بوجود سمات مشتركة تجمع بين كل المنتسبين إلى البنيوية هي النظر إلى (البنية) باعتبارها نظاماً مكتفياً بذاته.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال