طاهر لبيب وسوسيولوجية الغزل العربي.. البنيوية التكوينية للأدب واعتماد المنهج المستوحى من مجال علم الاجتماع الأدبي

طاهر لبيب كاتب تونسي، مثقف بالثقافة الفرنسية.
أصدر كتابه (سوسيولوجية الغزل العربي: الشعر العذري نموذجاً) باللغة الفرنسية عام 1972، ثم عرّبه حافظ الجمالي عام 1981 وفيه يرغب الباحث بأن يطرح من المشكلات أكثر مما يحلّ.

ويأخذ على الأدب العربي أنه يهتم، تقليدياً، بمظاهر ثانوية للإبداع، وأنه قد تجمّد في جملة من الأحكام الموروثة، ولهذا ظل في منأى عن المحاولات المنهجية الجديدة التي ما فتئت تتطور وتؤكد ذاتها في مجال العلوم الإنسانية.

وقد وضع الباحث كتابه هذا في سياقه الاجتماعي - التاريخي المعاصر له، دارساً علاقة (الانعكاس) التي ترى أن الاجتماعي يؤثر في الأدبي، للبحث في شعر العذريين الذي قيل إنهم من ذوي العفّة بتأثير الإسلام عليهم.

ومعتمداً المنهج المستوحى من مجال (علم الاجتماع الأدبي)، ولاسيما دراسات (لوسيان غولدمان)، ومستنداً إلى مبدأ بسيط جداً خلاصته أنه يجب ألا  نسأل الشاعر (عن شعره)،  بل نسأل شعره (عنه)، وبالتالي فإن موضوعه هو تحليل الأثر الأدبي من الداخل.

وقد أفضى به هذا التحليل إلى ملاحظة (رؤية خاصة للعالَم) عند جماعة العذريين، وكأنها نواة وعي أو شعور جمعي لمجموعة اجتماعية مشخصة كانت قد عاشت في شروط مادية خاصة.

في الفصل الأول تحدّث الباحث عن (اللغة العربية والجنس) حديثاً مضطرباً، معتمداً أقوال بعض المستشرقين المناوئين للإسلام أمثال بوسكي  Bousquet في كتابه (الأخلاق  الجنسية في الإسلام)، وسنوك هورغرونجه  S.Hurgronje الذي كان يرى (إنه لا قانون في الإسلام)! (ص25)، وتور أندريه T.Andrae الذي كان يدّعي أن (لا عبادة في الإسلام)! (ص25).

وأخذ الباحث عن هؤلاء المستشرقين الموتورين أوقعه في المغالطات التاريخية: فقصة يوسف الحقيقية التاريخية المذكورة في القرآن والإنجيل والتوراة، يراها الباحث "أسطورة".

وهذه المصادر التي يأخذ منها أو يحيل إليها قد أوقعته في الخطأ والاضطراب، لأنها تتحامل على الإسلام دون دراية.

ولعل هذه البداية الضعيفة تتعدّل فيما بعد؛ ففي الفصل التالي (البنية والدلالة) يرى الباحث أن (البنية) هي جملة من العناصر الأساسية تقوم فيما بينها شبكة من العلاقات المتقابلة، بحيث إذا تغيّر عنصر منها أو انحذف، فإن العناصر الأخرى تغيّر دلالتها بصورة موازية، وتختلف هذه البنية من عمل إلى آخر.

ثم يأخذ الباحث بمفهوم (الانعكاس) الذي أخذت به الأدبيات الماركسية، والذي يرى أن العالم الأدبي ماهو إلا (انعكاس) للعالم الواقعي.

ويوافق غولدمان على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين الإبداع الأدبي والواقع الاجتماعي والتاريخي، فيجعلها مع (المجموعة الاجتماعية)، مؤكداً أنه ليس هنالك من فاعل فردي إلا في الحالات الاستثنائية.

فالشاعر، كالكلمة السوسيرية، لا يُعرف إلا في إطار منظومة من العلاقات، حتى الجانب الشكلي من عمله الأدبي فإنه خاضع ـ أيضاً ـ لتأثير الجماعة الذي يسيّره وعيها الجماعي، حتى ولو لم يكن شاعراً بذلك.

من خلال هذه المقدمة يدرس الباحث مجموعة (الشعراء العذريين) في الأدب العربي، من خلال شعرهم، كجماعة معبّرة عن (غرض) واحد، مستفيداً من آراء المستشرقين: فاديه  Vadet وبلاشير Blachere، الذي لاحظ موضوعات عديدة في شعر الغزل العربي، منها: وقوف الشاعر على الأطلال، وذكرى الخلاّن، والفراق الأليم، وطيف الخيال، وجمال المرأة، واللحظات السعيدة.

كما لاحظ التطور البطيء للشعر مع الأوضاع الجديدة للمجتمع الإسلامي حتى وصل، في منتصف القرن السابع الميلادي إلى شيء من اختلال التوازن النسبي في هيكل القصيدة.

وكان بلاشير قد درس في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، شعراء الحجاز، فوجد فيهم شعراء عذريين كجميل، وشعراء ماجنين كعمر بن أبي ربيعة.
وهذا التباين منح المرأة وضعاً جديداً، حيث أصبحت الموضوع الرئيسي للنسيب، وألف وياء الشاعر العذري.

وإذا كان (البطل الملحمي) يفاخر بنفسه في الشعر الجاهلي، فإن الإسلام جعل (الأخوة في الله) حيث اشتد التركيز على الجانب المازوشي للوجود، فنشطت الرغبة في التلاشي في الآخر، أو المتعة التي يجدها المازوشي في التخلي عن نفسه، أو شقائه الخاص، أو في عجزه أمام العقبات المستعصية.
وهذا ما يجعله فريسة شعور بالإثم وعذاب ضمير دائم.

وقد انتهى الباحث إلى أن هذه الحالة المازوشية يمكن أن تكون ظاهرة جماعية، وأن العذريين قد أنبؤوا ـ قبل الصوفيين ـ بظهور ميل مازوشي متصل بالتصوّر الجديد للمجموعة الإسلامية.

وهناك ميزة أخرى بين (البطل الملحمي) في الشعر الجاهلي، وبين المسلم تجاه النظرة إلى الموت: فقد كانت نظرة البطل الملحمي إلى الموت مأساوية (تراجيدية)، بخلاف نظرة المسلم الذي يرى  الحياة زائلة، وامتحاناً عابراً، وطريقاً قصيرة إلى حياة الخلود، والحياة الحقيقية لا تبدأ إلا بعد الموت الذي يعتبر ولادة جديدة (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا).

وبهذا فإن الموت عنده لايعود مأساوياً، فالجنة الموعودة هي عنده عزاء لا يضاهى، وهكذا فإن الشعر الإسلامي مشبع بعاطفة الرضى.
وإذا كانت الحرب هي صورة من صور الموت، فإن الموت والحب لا ينفصلان.

وقد لاحظ (رجمونت) Rougemont أن الشعراء استخدموا، منذ القديم، صوراً مجازية للدلالة على آثار الحب الطبيعي: فإله الحب هو (رامٍ) يريش سهامه القاتلة.

والمرأة (تستسلم) للرجل الذي (يأسرها) لأنه أفضل المحاربين. ويؤكد التحليل النفسي والأنثربولوجي علاقة وثيقة بين الغريزة الجنسية وغريزة القتال، منذ أن كشف الإنسان عن عدوانيته في الصيد ثم في الحرب.

وقد بيّن (رجمونت) أنه بدءاً من القرن الثاني عشر في الغرب اغتنت لغة الحب بمفردات الحرب والمعارك: فالمحبّ (يحاصر) حبيبته، ويقوم بـ(هجمات) عاطفية على فضيلتها، و(يحيط) بها عن قرب، ويلاحقها، ويلاصقها، ويحاول أن يقضي على آخر (حصون) حيائها، و(الالتفاف) عليها بالمباغتة.
وأخيراً فإن المعشوقة (تضع نفسها بين يدي) محبّها.

إن ازدواجية معاني الكلمات في اللغة العربية تحملنا على اكتشافها: فكلمة (الفتنة) مثلاً تدل على الحرب المادية أو الإيديولوجية، كما تعطي أيضاً معنى الإغراء الجنسي.
وفي القصيدة العربية يمضي النسيب إلى مواضع أخرى هدفها تأكيد الشاعر نفسه كمحارب شجاع.

وهكذا فإن (البطل الملحمي) هو شخصية منفردة داخل مجموعته وخارجها، وعندما يتأثر بعداء هذه المجموعة نجده يتخذ موقفاً مأساوياً.
فهو لا يفتأ يجابه موتاً تراجيدياً، لكنه يرفض أن يموت كيفما اتفق، لأنه يبحث عن موت (فريد) لكن عقبات تظهر أمامه، والمرأة واحدة منها.

ولما كانت المرأة من طبيعة ضعيفة، فإنها لا تملك إلا أن تخاف من صورة الموت.
وهكذا يصبح حبها عقبة دون إنجاز البطل الملحمي في موت بطولي.

وهكذا يصبح الحب (إشكالياً) بالنسبة لعنترة على الطريق المؤدية إلى إنجاز عمل بطولي:
بكرت تخوّفني الحتوفَ كأنني
أصبحت عن غرضِ الحتوفِ بمعزلِ
ولكن ما أن يبتعد البطل حتى "يستدعي" صورة حبيبته التي كان من قبل قد أزاحها من طريقه، و"حضورها" يصبح كبير النجاعة في ساحة القتال، إذ يمنحه الشجاعة:
ولقد ذكرتُك والرماحُ نواهلٌ
منّي، وبيض الهندِ تقطرُ من دمي

وعلى هذا فإن الحب يصبح خطراً بمقدار ما يتعارض مع الموت من حيث هو نهاية بطولة.
في قسم (عالم العذريين) يعرّف الباحث بالعمل الأدبي، فيأخذ بعين الاعتبار بعض عناصر التحليل النقدي: البنية، والفاعل التاريخي، وبنية التماثل.

ويصوغ تعريفاً للعمل الأدبي يراه فيه عالماً رمزياً تُنشئه مجموعة اجتماعية، يمثلها شخص المؤلف، ولها موقف مشترك تجاه العالَم الذي كانت بنيته كافية الانسجام، وعلى علاقة تماثل مع بنية العالَم الواقعي لهذه المجموعة.

ومن الواضح أن هذا التعريف للعمل الأدبي هو تعريف البنيوية التكوينية للأدب.
وعمل العذريين هو فاعل جماعي.

لا يقترب من واقع معيش مباشرة، بل مما يسميه غولدمان (الوعي الممكن) الذي اكتسبه العذريون عن طريق الرفض الذي اقتضاه التعاهد على العفّة.
و"روايات العذريين"، التي عُرفت منذ القرن السادس أو السابع واحدة: رجل وامرأة يتحابّان حباً شديداً.

ومع ذلك فإنه يُحال بينهما وبين الزواج، فيعيشان منفصلين، دون أن ينسيا حبهما أبداً.
ويموت الرجل من شدة ما يُعاني، فيؤدي ذلك إلى موت الحبيبة.
وهذه هي قصة عروة الذي أحب ابنة عمه عفراء، لكن أباها زوّجها غيره، فتاه عروة، ومات وحيداً في وادي القرى.
وعندما علمت عفراء بموته ماتت هي أيضاً فوق قبره.

وإذا كان هدف المحب هو الوصول إلى الطرف الآخر، فإن الحبيبة، بالنسبة للعذري، ليست سوى "أنا" آخر، ذلك أن الحبيب يعتبر متطلبات الحبيبة متطلباته هو تجاه نفسه، فكل شيء يتمّ كما لو أن الإذعان ليس إلا عملية تجاوز للذات.
وهذه العملية تؤدي إلى وضع ممتاز يكون فيه الحبيب محبوباً وجديراً بأن يُحبّ.

والحب مبني على الذل، لا يأنف العزيز أن يذل لمحبوبته، فلا يعدّه نقصاً ولا عيباً، يقول أحدهم:
تذلّلْ لمنْ تهوى لتكسبَ عزّةً 
فكم عزّةٍ قد نالها المرءُ بالذلِّ
وجميل بثينة يتحدّى خصومه، ولكنه يستعطف بثينة بقولـه:
أبثينِ إنكِ قد ملكتِ فأسجحي
وهذا التذلل ليس نقصاً في الرجولة لدى العذريين.

ويرفض الباحث التفسير الذي يردّ ظاهرة الشعر العذري إلى تأثير الإسلام على الشعراء العذريين، وهو التفسير الذي أخذ به شكري فيصل في كتابه (تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام)، ورأى فيه أن النفس أمّارة بالسوء، على ما جاء في سورة يوسف (الآية 53) وأن النار قد حُفّت بالشهوات على حدّ تعبير الحديث الشريف، وأن من الخير أن ]يستعفف الذين لا يجدون نكاحاً[ (سورة النور، الآية 33).

والعذري يجعل محبوبته سامية إنسانياً، وحبّها يجسّد الحياة والموت، وفيها يبلى الدهر، وتجد الروح حينها، وهي المرأة الوحيدة التي تشغل قلب المحب، وهذا هو الشيء المأساوي الذي يقضي فيه المحب على كل إمكانية علاقة مع امرأة أخرى غير حبيبته، لأنه يلتزم بالوفاء لها حتى الموت، يقول جميل:
آليتُ لا أصطفي في الحب غيرَكُم
حتى أُغيّبَ تحت الرمسِ بالقاعِ

والعذري لا ينظم الشعر في امرأة غير التي يحبها، يقول جميل:
إذا ما نظمتُ الشعرَ في غيرِ ذكرِها
أبى وأبيها أن يطاوعني شعري
والحبيبة في تخييلهم الشعري هي مخلوقة صعبة المتناول، وهي أعلى مثالياً من أن تكون زوجة، وعليها أن تبقى مثالاً.

ولذلك فإن العذريين يعفون عند اللقاء، ويشتاقون عند البعاد، يقول جميل:
يموتُ الهوى مني إذا ما لقيتُها 
ويحيا إذا فارقتُها فيعودُ

واسم التفضيل كثير التردد في الشعر العذري: فهي (الأحسن)، و(الأجمل) و(الأروع).... يقول جميل:
وأحسنُ خلقِ الله جيداً ومقلةً

ومامن إنسان يستطيع مقاومة إغرائها، حتى الأتقياء الورعون، والحيوانات المنزوية، يقول كُثّير:
رهبانُ مَدْيَنَ لو رؤوكِ تنزّلوا
والعُصم في شعف الجبال الغادر

وهذا الإعلاء من شأن المرأة دليل على شباب الشاعر، لأن الهرم عندما يأتي يولي الحب.
ثم ينطلق الباحث من فرضية (التماثل) بين وحدانية الله وتصّور الحبيبة الوحيدة.

وهذا التماثل تأثير إسلامي مشخص. وقد رافق هذا تزايد تقديس الحبيبة الواحدة، يقول جميل:
أُصلّي فأبكي في الصلاة لذكرها
لي الويلُ مما يكتبُ الملكانِ
ويقول مجنون ليلى:
أراني إذا صلّيتُ يمّمتُ نحوها 
بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
ومابي إشراكٌ ولكن حبّها
كعود الشجا أعيا الطبيبَ المداويا

ويرى الباحث أن البدوي عندما رأى نفسه عاجزاً عن فهم رسالة الإسلام، كان على العامل الإيكولوجي أن يملي صورة إنشاء (وعي ممكن) يمكن أن يتخذ فيه الإيمان الديني مكاناً له فيه، فوجد العذري في المرأة أكمل المخلوقات، أو صنفاً إلهياً من الطراز الأول، فأسبغ عليها المثالية، وأصبحت الوسيلة المعقودة لصعود روحاني لا يكتمل أبداً.

وهذا ينقلنا إلى الثقافة: أي بين الذي مضى، والذي لم يأتِ بعد.. والعالم العذري هو صحراء من سراب لا يموت الإنسان فيها إلا من الظمأ، ولا تقبل الأسطورة أن يرتوي بطلها، وتعويض المحب الذي لا يرتوي أبداً هو البكاء.
وهذا النوع من تعذيب الذات (المازوشية) يتكرر عندهم كثيراً.

وهذا الحديث قابل للنقاش، إذ فيه الصواب والخطأ: فليس صحيحاً أن العرب لم يفهموا رسالة الإسلام وإلا فكيف نشروه في العالم كلّه؟

ثانياً: إذا قلنا بتأثير الإسلام على العذريين، فكيف يجعل العذري من المرأة أكمل المخلوقات أو صنفاً إلهياً من الطراز الأول، والإسلام لم يقل بذلك، بل جعل المرأة دون الرجل منزلة "الرجال قوّامون على النساء، وشهادة المرأتين تعادل شهادة رجل واحد". وقد جعل الباحث العشق نوعاً من تعذيب الذات (المازوشية) في حين أنه (مرض) تنبغي معالجته.

وحين يتساءل الباحث عن (العفّة) وهل هي مجرد مجاز شعري أم حقيقة واقعية؟.. ينتهي إلى أن المسألة زائفة لا مجال للتحقق منها ولا نتيجة لها (ص134) بإرواء الحياة الجنسية، فسمح بأن يتزوج الرجل أربع نساء عدا الإماء، والجماع الحلال عمل من أعمال التقوى، (وفي بضع أحدكم صدقة)، و(الزواج نصف الدين)، والتناسل والتكاثر واجب مقدس.

وهذا كله ينتهي بنا إلى أن العجز الجنسي ذو طابع مأساوي وكأنما هو عقاب إلهي وذلّ اجتماعي.
وعلى ذلك فإن المسلم لا يتردّد في أن يجعل من الجنس موضوع دعاء: فقد كان الليث بن سعد إذا غشي أهله يقول: "اللهم سدد لي أصله وارفع لي صدره، وسهّل علي مدخله ومخرجه، وارزقني لذته،  وهبْ لي ذرية صالحة تقاتل في سبيلك".

وكان محمد بن المذكور يدعو في صلاته: "اللهم قوِّ لي ذكري، فإن فيه صلاحاً لأهلي" والليث ومحمد من نقلة السنّة النبوية.

وهكذا ينتهي الباحث إلى أن (العفّة) المعزوة إلى العذريين إنما هي مظهر عرضي وثانوي، ذلك أن تعذّر الوصول إلى الحبيبة التي تحول دونها العقبات، يجعل المرء خاضعاً مستسلماً، لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر. يؤكد هذا قول جميل:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصرهُ الواشي لقرّت بلابلُهْ
بلا وبلا أستطيعُ وبالمُنى
وبالوعدِ حتى يسأمَ الوعدَ آملُهْ
وبالنظرةِ العجلى وبالحولِ تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائلُهْ

ومع أن العذريين يستبعدون عن عالمهم أمر العلاقة الجنسية بالمعنى الحقيقي، فإنهم لا يتوقفون عن دعوة الحبيبة إلى (الجود) معبّرين عن رغبة جنسية يجعلها الحرمان بائسة ومرهقة.
لكنهم يتكلمون عن متعة حقيقية نالوها على مستوى القبلة، يقول جميل:
تجودُ علينا بالحديثِ وتارةً
تجودُ علينا بالرضابِ من الثَّغْرِ

وعندما ينتقل الباحث إلى دراسة (المجموعة العذرية): عصرها، ونموذجها، وبنو عذرة، واستراتيجيتها الجنسية... يحوصل نتائجه في التالي:

1ـ إن الركيزة اللسانية هي التي نقلت مجموعة المفاهيم والقيم التي حدّدت التعبير الشعري.

2ـ إن البنية الإجمالية للعالم العذري تتمثّل في معاناة الشخصية العذرية تجارب بؤس تحب أن تخترعها، فتصبح  ضحية مازوشية لها، وذلك بسبب استحالة الوصول إلى الحبيبة.

3ـ هنالك بنى صغيرة ضمن البنية الإجمالية، تجدّد بعض التعارضات المتناقضة ظاهراً.

ثم ينتقل الباحث من (الفهم) إلى (التفسير)، فيضع (المجموعة العذرية) في إطارها الزماني(العصر الأموي الذي تميّز بمثاقفة، وبتغير الشروط الاقتصادية والاجتماعية بسبب الفتوحات، واختلاط الأجناس، وتدفّق الثروات، وهيمنة العرب)، والمكاني (وادي القرى الذي يقع بين تيماء وخيبر، واسمه يدل على وجود عدد كبير من القرى فيه).

وتاريخها الجاهلي فقير بحوادث الحروب، وهذا يفسر قلة عدد شعرائهم، وعزلتهم الجغرافية، فقد كانت الطرق التجارية منحرفة عنهم بسبب السلاسل الجبلية المحيطة بهم. ويبدو أنهم كانوا وسطاً بين حضر الحجاز، وبدو الصحراء، لأنهم (أهل قرى) يعيشون الهامشية الاقتصادية والثقافية، ومن هنا عدم تلاؤمهم مع التملك، حتى إنهم يتخلّون عن امتلاك المرأة، ذلك أن الحرمان الاقتصادي قد أنتج ـ حسب الباحث ـ حرماناً جنسياً.

ولكن علماء التحليل النفسي يرفضون هذه المقولة، ويؤكدون عكسها؛ وهو أن الحرمان الاقتصادي يؤدي إلى كثرة الاتصال الجنسي، ذلك أن الفقراء ليس لديهم بدائل أخرى عن لذة الجنس، كلذة اقتناء المال، أو لذة السلطة، المتوافرتين لدى الأثرياء.
ومن هنا يظهر ضعف بعض استنتاجات الباحث، وخطؤها لأنها مبنية على مقدمات خاطئة.

ومن أخطاء الباحث أيضاً أنه يجابه استحالة الوصول إلى الحبيبة باستحالة الزواج، ولهذا يكتفي العذري باستغلال القسم الأعلى من جسم الحبيبة، فيبيح لنفسه القبلة، والضّمة، واللمسة... فإذا كان الأمر كذلك فأين (العفّة) التي وُصف العذريون بها؟.. إن الباحث حين ينكر عفّة العذريين فإنما ينكر شيئاً تواترت فيه الأخبار والأشعار.

وإن الباحث عندما يفسّر (الظاهرة العذرية) بالشروط الاجتماعية والاقتصادية التي أوجدتها، فإنه ينكر ـ بذلك ـ تأثير التعاليم الإسلامية عليهم.

وإن اعتماد الباحث على المصادر الفرنسية وحدها، لكونه يتقن هذه اللغة، وإغفاله المصادر العربية القديمة التي جمعت أخبار وأشعار العذريين، والمصادر العربية الحديثة التي عالجت (ظاهرة الشعر العذري) من مثل ما كتبه العقّاد وزكي مبارك وشكري فيصل وشوقي ضيف وصادق جلال العظم وغيرهم عن هذه الظاهرة، جعل بحثه يعاني من نقص كبير.

ولو أنه استفاد من المراجع العربية والحديثة لجاء بنتائج مختلفة، ولعّدل كثيراً من آرائه التي استوحاها من مراجعه الفرنسية فحسب، ومن غولدمان، وحده.

وعلى الرغم من ذلك فإن هذا البحث يظل رائداً، لأنه تجرأ على معالجة موضوع معروف، من زاوية نظر (البنيوية التكوينية) التي كانت جديدة آنذاك (في مطلع السبعينات)، ولأنه وضع مقولات هذا المنهج النقدي موضع التطبيق في النقد العربي الجديد.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال