الأمة الإسلامية والمشاركة في التغيير والحكم بعيدا عن الاستبداد

ربّي الإسلام هذه الأمة علي أن مهمتها لا تنحصر في تحقيق كيانها الذاتي المحدود،  وإنما لها هدف أُخْرِجت من أجله،  ورسالة كُلِّفت بها هي الدعوة إلي دين الله الحق ..وحين بلغت الأمة الإسلامية ( الرشد) الحضاري،  حملت رسالتها في الدعوة للخير بمعناه الواسع،  والنهي عن المنكر بمعناه الواسع،  وقامت بدورها في الشهادة علي الناس والقيادة لهم،  فحققت قول ربها عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} آل عمران110،  وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة143
ولقد علم الله ـ وهو اللطيف الخبير ـ أن الجاهلية ستتكتل في الأرض كلها،  وفي التاريخ كله ضد رسالة الأمة الإسلامية وأهدافها،  
ومن ثم فقد كلف الله هذه الأمة بالجهاد،  فأصبح الجهاد في الإسلام فريضة من فرائضه تدفع شرور الجاهلية وتمنع الفساد في الأرض { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} البقرة251 {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} الأنفال39.
  فالجهاد هو الرادع للأمم التي تعتمد الصراع أساساً في علاقاتها مع الأمم الأخرى،  والجهاد هو المعالج لمضاعفات حركة هذه الأمم في الفتنة والفساد .
    والجهاد ـ في الوقت ذاته ـ هو " الأداة لتبليغ دعوة الحق،  لإخراج الناس من الظلمات إلي النور،  وإزالة الطواغيت من الأرض،  لتعبيد الناس لربهم الحق،  وتحريرهم من العبودية لغير الله " (1) . وهذا هو المعني ( الحضاري ) للجهاد، " فالجهاد يعكس مفهوم ( الأمن الإسلامي ) الذي يركّز علي إيصال الرسالة وتبليغها إلي الآخرين،  بُغْية توفير الأمن الفكري والمادي والنفسي لبقاء النوع البشري ورُقِيه.. ودفع قيم الكفر التي تشوه جميع أشكال الاعتقاد والشعور والممارسات في ميادين السلوك والاجتماع والعلاقات.. وتشيع الفتن والمظالم السياسية،  والمفاسد الاجتماعية،  وترد شبكة العلاقات الاجتماعية إلي عهود الغاب والهمجية والتخلف. وبذلك كان طلب الإسلام بذل النفس لمحاربة قيم الكفر ومؤسساته وممثليه وبذل المال لنشر قيم الرسالة الإسلامية وإقامة مؤسساتها والإنفاق علي العاملين والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلامية  فيشيع السلام ويكون الدين كله لله " (2).
    ولاشك أنه ما كان للأمة الإسلامية أن تقوم بدورها وتؤدي رسالتها كما أمرها ربها : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} .. إلا إذا كانت تتمتع بـ ( المناعة السياسية ) فلا تصبر علي ظلم الملوك ن ولا تقبل استبداد الرؤساء .. بل تدرك أن لها دوراً في ترشيد الحكم الإسلامي،  والرقابة علي أعمال الحاكم المسلم،  وردّه إلي الحق الرباني،  وعدم الرضا منه بمخالفة ما أنزل الله .
   وهذا ما كانت تدركه وتمارسه الأجيال الأولي من هذه الأمة،  كانت تدرك أن المسلمين " جماعة واحدة ويدٌ واحدة وجسم واحد،  وليس معني انتقاء واحد من المسلمين ليقوم بشؤون المسلمين أن الآخرين أصبحوا في حل من الاهتمام بشؤون الأمة وضاعت مسؤوليتهم بل الجميع مسؤولون علي سبيل التعاون والتآزر والتضامن والتكامل " (1)  فالحكم الإسلامي عملية مشتركة بين الأمة وبين حكّامها .. بين القيادة المتسلحة بالحق،  والمنتصرة به " والأمة القادرة دائماً علي الحيلولة دون تحول قياداتها إلي ( أوثان ) تقودها بدون وعي . فالأمة تراقب الحكام .. والحكام يحاولون الارتفاع إلي مستوي الحكم الإسلامي بقدر إرادتهم العازمة في تمثله في دنيا الواقع " (2).
    وإذن فقد كان الذي " يتولي الأمر من بين المسلمين لا فضل له علي سائر الرعية إلا بالتقوى،  ولا سلطان له عليهم إلا بأمر الله ورسوله،  فليس له أن يتبوأ عرش العظمة والجلالة ويتظاهر بعلو شأنه وارتفاع منزلته،  ولا يجوز أن يُخْضع رقاب الناس ويجعلهم يُذْعنون لجبروته،  وكذلك ليس في مُكْنته أن يتقدم خطوة في طريق يعارض الطريق الذي أوضحت معالمه الشريعة الغراء،  أو يغير ساكناً غير مستند إلي دليل من كتاب الله وسنه نبيه،  ولا يقدر أن يعفي نفسه أو أحد أصدقائه وذوي قرباه من حق يجب عليه أداؤه لأي رجل،  مهما يكون حقيراً أو صغيراً في المجتمع،  وأيضاً لا يسوغ له أن يأخذ حبه من خردل أو يمتلك شبراً من أرض من غير أن يكون له حق فيها . وحرام عليه أن يأخذ من بيت المال ما يفضل ولو قليلاً عما بأود حياة رجل من أوساط الناس " (3) .
    ولقد كانت الأمة في العصور الأولي للحكم الإسلامي تراقب حكّامها وتراقب أي انحراف في أوضاع الحكم،  وتُقيّد طاعتها للحكام بمدي تَقيّد هؤلاء الحكام بطاعة الله،  فكان ميثاق الحاكم : أطيعوني ما أطعت الله فيكم،  فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم . وكان تعليقه علي منتقديه : لا خير فيكم إن لم تقولوها،  ولا خير فينا إذا لم نسمعها !!
   ولكن الأمة الإسلامية لم تبق علي هذا المستوي السامق من حيث ترشيد الحكم داخلها،  وحمل رسالتها إلي البشرية .. فقد طال عليها الأمد،  فأصبحت لا تتأثر بحقائق الواقع ولا تتحرك لتغييره،  وبدأ التخلي التدريجي من مجموع الأمة عن مراقبة أعمال الحكام،  وانصرافها التدريجي إلي أمورها الخاصة .. حتى وصلت الأمة الإسلامية إلي الضياع والذل والهوان والهبوط المسف،  الذي لا تكاد تدانيه أمه الواقع المعاصر !!
     فكيف تأتي للأمة التي ارتفعت إلي القمة الشامخة التي لم تسبقها إليها أمة في التاريخ،  أن تتدني إلي هذا الحضيض ؟
    لقد بدأ الانحراف ( التدريجي ) في حياة الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر من تاريخها . وبعد أن كان حكّام المسلمين في عهد النبي صلي الله عليه وسلم،  وفي عهد خلفائه الراشدين رضي الله عنهم،  هم أهل الفقه والعلم والدين والعقل .. " جري التاريخ الإسلامي بما هو معلوم من انفصال بين أهل العلم من رجال الفقه والعقيدة  وبين أهل الحكم والسياسة،  ومن استفحال للاستبداد السياسي،  الذي تجاوز قمع المعارضات السياسية،  إلي قمع كل ما فيه مساس بشؤون الحكم،  من الرأي العلمي المتعلق بشؤون الاعتقاد،  والمعاملات العامة !! فابتعد العلماء عن المشاكل الواقعية للحياة الإسلامية العامة بدافع من التوجس من سطوة السلاطين من جهة،  ومن خفوت الزخم الحضاري الحيّ،  وسيرورة الحياة إلي نمط رتيب غير مثير من جهة أخري،  وعكفوا علي ما بين أيديهم من موروث فقهي ثري،  يعملون فيه بالترتيب والشرح والتفصيل "(1).
    وهكذا كان الاستبداد السياسي سبباً في تخلي أكثر العلماء ـ إلا من رحم الله (2) ـ عن دورهم في  (ترشيد الحكم ) ومجابهة الظلمة من الحكام ...واكتفوا بدورهم في المحافظة علي عقيدة أهل السنة ومنهجهم،  فكان من نتائج ذلك غياب المرجعية العلمية التي تمنع تفكك الأمة،  وانعزال أفراد الأمة داخل الإسلام ( الفردي ) وتحول الحكم في الدولة إلي حكم فردي تتركز فيه السلطة في يد الحاكم،  ولا تتاح فيه الفرصة لمشاركة الأمة !! .
     ولاشك أن التاريخ الإسلامي وقد حفظ في ذاكرته " أسماء لدول عظيمة بدأت بدايات جليلة كالسامانيين والغزنويين والأيوبيين والأتراك والعثمانيين،  ولكنها ( كلها ) كانت ثقيلة اليد علي الناس،  شديدة الطمع في أموالهم،  قليلة الاهتمام بدمائهم،  ولهذا توقف معظمها بعد مسير قليل،  وتحولت إلي ( استبداديات ) فقيرة يتحارب أفرادها علي الملك لأنه كان الوسيلة الكبري للأموال "(3) وأدي الاستبداد السياسي لهذه الدول " إلي ضمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،  في المجال السياسي خاصة وتحوّل الإسلام في حسن الناس إلي ممارسة فردية بعد ضمور الممارسة  الجماعية لهذا الدين – وهي ركن أساسي فيه – والتركيز علي الشعائر التعبدية علي أنها الدين ؟ّ! " (4) لقد كان عنف معاملة الحكام لخصومهم السياسيين مما أرهب الناس من معارضة أي أمر يهمّون به،  فتخلي أكثر الأمة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة لحكامهم واتجه كثير من المسلمين إلي إيثار العافية،  وأعرضوا عن هذا (الواجب ) بكثرة الصلاة والصيام والذكر والدعاء ..ولسان حالهم يقول : نترك الواقع بكل ما فيه من سوء لا نتعرض لإصلاح الذات !!
  وهكذا بقي الاستبداد السياسي الذي بدأ مبكراً جداً في حياة الأمة الإسلامية ـ حتى الدولة العثمانية التي لم يكن " الاستبداد السياسي فيها مجرد امتداد لما قبلها فحسب،  بل زاد عليه ( الحزم ) الزائد الذي يمارسه العسكريون في المعتاد حين يتولون شئون الحكم ... ثم أضيف إليه نظام الإقطاع،  الذي كان معمولاً به عند الأتراك في جاهليتهم قبل أن يدخلوا في الإسلام،  وحملوه معهم في إسلامهم،  والذي أضاف إلي طابع الاستبداد السياسي نوعاً من ( الظلم الاجتماعي ) الذي يسببه الإقطاع ،  والذي يعيش فيه ألوف من البشر في حالة من التبعية الكاملة للباشوات أصحاب الإقطاعيات "(1).
    ثم بعد سقوط دولة ( الخلافة ) العثمانية(2) ـ التي كان الحكم فيها في النهاية داخل دائرة الإسلام،  مع شيء من الشذوذ أو المفارقة عن خط الخلافة الراشدة ـ بدأت الأمة الإسلامية حقبة تأريخية جديدة هي حقبة ( الاستعمار المباشر )،  والتي حرص الاستعمار فيها علي صرف الأمة عن الجهاد،  وتلهيتها بشتي الوسائل لكي لا تتجه نحوه،  ولا تلتفت إليه .. ثم قام الاستعمار بنشر أخلاقيات الضعف والانسحاب والخوف،  وتقوية إحساس الفرد بفرديته،  وتغييب الرابطة الاجتماعية التي تشده إلي الآخرين من أفراد الأمة،  فكان من نتائج ذلك أن بدأت الأمة تعاني من سيئات ( الروح الانفرادية ) التي تجعل الأمة تقف في معركة الظلم والعدل موقف ( المتفرج ) الذي لا يدعم المعركة،  ولا يحارب فيها،  بل يكتفي بملاحقتها بنظراته التي تنتقل بين المنتصر والمهزوم في حماس ساذج مهزوم !!
  لقد كان أشقي ما شقيت به الأمة الإسلامية في عهود الاستعمار هو ( الخضوع ) الذي أصبح عادة للأفراد حتى رأوا فيه الطريق الوحيد إلي السلامة،  وما علموا أن السلامة الكاملة كل الكمال ما سيطرت علي شئ إلا انتهت به إلي الموت،  وأن الجسم الميت هو وحده الذي لا يقاوم ..ذلك " أن الفرد بادئ ذي بدء يخضع للباطل ويستسلم له،  وقلبه غير مطمئن به،  ثم يأخذ قلبه في الاستئناس به يوماً بعد يوم حتى يطمئن به،  ويحس من نفسه ميلاً وتشوقاً إليه،  وهكذا يتدرج في الركون إليه والاستئناس به إلي أن يكون عوناً له ومؤازراً في توطيد دعائمه،  حتى يأتي عليه اليوم الذي لا يضن فيه ببذل النفس والمال في سبيل إقامة صرح الباطل،  والصد عن الحق "(3)... وإذا بلغ الفرد هذا الحد،  فلا فرق في الحقيقة بينه وبين الميت ؟!
 لقد حرص الاستعمار علي إبقاء الشعوب ساكنة هادئة تنعم في ( الجهالة والخضوع ) بالخيرات التي يتفضل بها السادة علي عبيدهم .. حتى إذا بدأت النذر بأن السماء قد تمطر ناراً أو دماراً علي أعداء الله،  بأيدي أولياء الله .. عندها بدأ " الاستعمار الغربي في ( لعبة ) سياسية جديدة هي الانقلابات العسكرية التي يقوم بها ضباط اشتهروا بهذه الصناعة،  ثم يظهرون في صورة ( الأبطال ) و ( المحررين ) الذين هبطوا من السماء لإنقاذ شعوبهم من الخضوع والذل،  وإخراجهم إلي العزة والكرامة "(4) !! فإذا أسلمت الأمة قيادها لهؤلاء ( العملاء ) بدأت حكوماتهم في عزل جماهير الأمة عن المشاركة في أداء مهمات الحكم،  ومارست عليها ( استبداداً ) سياسياً،  فصادرت حرياتها وحقها في اختيار حكامها،  بل وحقها في بناء حياتها .. ليصبح الحكم في النهاية هو أن تمارس ( فئة ) من البشر التسلط والتحكم في جماهير الأمة مستخدمة في ذلك إعلامها،  وشرطتها،  وأجهزتها المختلفة ..
   وهكذا عاد الغرب الاستعماري ليخترق الأمة الإسلامية عبر الحكومات العميلة التي تُغْلق سبل المشاركة في وجه جماهير الأمة،  فتحدث ظواهر الاغتراب،  ويقل الانتماء،  وتنهار قوي الأمة،  وتصبح بلا أثر في الأحداث،  ولا تستطيع إيقاف ( سرطانات ) الحكومات الاستبدادية التي تسير في طريق التخلف والفرقة والضعف..
    إن الحكومات والأنظمة العلمانية العميلة هي في مجملها نظم سلطوية يحل فيها ( الحاكم ) محل ( الأمة )،  وتكون الدولة فيها هي منشئة الكيان الاجتماعي،  والمتحكمة في الوضع الاقتصادي،  والنظام العسكري وغيره،  ولا تسمح هذه الحكومات للأمة بأدنى مشاركة فيدفع ذلك أفراد الأمة غلي اليأس من اٌلإصلاح السياسي والاجتماعي،  فتكون النتيجة هي تقوقع الأفراد في دائرة الهموم الفردية،  وشقاء الأمة بحكامها الذين تعودت علي الخضوع لأوامرهم،  مهما كانت هذه الأوامر،  كما يدق الجرس علي الفور وراء ضغط الزر واتصال التيار !!
   ولاشك أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة يفرض علي الحركة الإسلامية أن تكون ( الشورى ) مقوماً في طبيعتها،  وتكوين صفوفها الأساسية،  وأن تبقي عندها نهجاً مبدئياً،  وفعلاً إيجابياً،  وأحد شروط الحياة من البداية للنهاية .. شوري حقيقية تبدأ فيها الحركة الإسلامية بنفسها وبين أفرادها،  قبل أن تستخدمها كشعار في الصراع السياسي مع الخصوم .. ذلك أن هذه الشورى هي التي تربي الأفراد علي روح الإسلام التي ترفض الاستبداد،  ولا تسمح للفرد أو الأقلية أن تستبد بالجماهير وتُغَلب مصالحها الخاصة علي المصالح العامة للأمة الإسلامية .
    إن الحركة الإسلامية الطليعة هي التي تدرك أن الاعتماد علي سطوة الحكم ليس هو السبيل إلي إقامة الحكم الإسلامي،  وإنما لابد من " منهج بطئ وطويل المدى،  يستهدف القاعدة لا القمة،  ويبدأ من غرس العقيدة من جديد،  والتربية الإسلامية الأخلاقية " (1) التي تُخْرج الإنسان الجديد والأمة الجديدة، التي هي الأساس في حركة التغيير،  وفي بناء الحكم الإسلامي بعد التغيير.
    عن المواجهة مع أعداء الله مواجهة عالمية،  والحكم الإسلامي الذي نُريد إقامته سيكون مستهدفاً من كفار الأرض جميعاً،  ولذلك فإنه لا يكفي " الضغط الشعبي لإقامة الحكم الإسلامي إن لم يكن ( الشعب ) الذي يمارس الضغط مستعداً للجهاد، ومستعداً لخوض معركة طويلة الأمد،  يصبر فيها علي الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات كما بيّن الله في كتابه المنزّل: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .  وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}-البقرة 153-155 "(2).
    وإذن فلابد من وجود ( عقيدة ) تدين بها الأمة،  وقضية ( تجند ) الجماهير نفسها لها،  وغاية تدفع الأفراد إلي التضحية في سبيلها .. وبغير هذه العقيدة والقضية والغاية فإن غاشية واحدة من غواشي الفتن ستثير الوهن،  وتنشر التمرد في صفوف جماهير الأمة،  فتخرج تلك الجماهير التي طلبت بإقامة الحكم الإسلامي  لتطالب بالرخاء والحرية،  وتهتف بسقوط الكهنوت والرجعية !!
   إن الحركة الإسلامية الصحيحة لا تتحرك كـ ( بديل ) للأمة أو بالوكالة عنها،  ولكنها تتحرك كـ ( طليعة) لجماهير الأمة،  وترفع غشاوة التضليل عن عيونها،  وترفع العقبات من طريقها،  لتنطلق تلك الجماهير في طريق التغيير .. فالحركة الإسلامية تقوم بدور المُبَلّغ والداعي،  وتضحي من أجل ذلك ومن اجل توعية جماهير الأمة .. أمّا بعد ذلك فإن الأمة هي التي تقوم بالتغيير،  وهي التي تبني الحكم الإسلامي .
    وبكلمة :
     إن النظام الإسلامي هو النظام الذي يسمح بمشاركة الآمة في التغيير وفي الحكم،  ويعد مبدأ الشورى أصلاً من أصول هذا النظام،  ولذلك يختلف هذا النظام اختلافاً كلياً وجذرياً مع كل النظم الاستبدادية التي يكون الحكم فيها فردياً تستقر فيه سلطة الأمر والنهي بين يديّ حاكم فرد،  ويغيب فيه دور الأمة في التغيير والحكم .
    إن الاستبداد السياسي الذي هو قرين كل نظام سلطوي لا يتحقق بمجرد تسلط فرد أو حزب أو طبقة علي الأمة،  وإنما هو في الحقيقة ينشأ في رحم الأمة عبر أخلاقيات الضعف والخوف،  وممارسات الانعزال في دائرة الهموم الفردية،  وبفعل ما يسري في الأنفس من استعداد للخضوع وقبول للاستعداد،  ومن ثم فإن أخطر ما يتهدد أمة ليس تسلط المستبدين عليها،  بل ( قابلية ) أفرادها للاستبداد
   إن الطلائع المؤمنة ليست بديلة عن جماهير الأمة،  ولكنها ذراع هذه الجماهير،  وقلبها النابض،  وعقلها المفكّر .. وهي تري أهداف الإسلام وتسلك السبيل القاصد إلي تحقيقها في واقع الأمة،  ولكنها في ذات الوقت لا تغفل عن دور الأمة في الوصول إلي هذه الأهداف،  وتدرك أن ( الأمة ) لا بد أن تكون (حاضرة ) و ( شاهدة ) في ساحة المواجهة مع أعداء الإسلام.
(1) الجهاد الأفغاني ودلالته – محمد قطب ص 30،31..
(2) إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد الكيلاني ص 53..
(1) سبيل الدعوة الإسلامية – د. محمد أمين المصري ص 38.
(2) مستفاد من كتاب : إخراج الأمة المسلمة – د. ماجد الكيلاني .
(3) الجهاد في سبيل الله – أبو الأعلى المودودي ص 48،47.
(1) في فقه التدين – د. عبد المجيد النجار ص 131 .
(2) كان من بين هؤلاء العلماء : أحمد بن حنبل ، وابن تيمية ، والعز بن عبد السلام ، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
(3) أطلس تاريخ العالم الإسلامي –د. حسين مؤنس ص 431.
(4) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 163.
(1) مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر – محمد قطب .
(2) لسنا هنا نؤرخ لأحداث التاريخ الإسلامي وإنما نرسم خطوطاً عريضة لظواهر تاريخية رئيسية كان لها الأثر الأكبر في تغييب مشاركة الأمة في التغيير.
(3) مستفاد من كتاب : الجهاد في سبيل – أبو الأعلى المردودي .
(4) مستفاد من كتاب : الجهاد الأفغاني ودلالاته - محمد قطب.
(1) لماذا أعدموني ؟ - سيد قطب ص 69.
(2) واقعنا المعاصر – محمد قطب ص 481 بتصرف .
محمد محمد بدري

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال