العرب المساكين إلى أين المصير؟.. تقطع أوصال الأمة العربية والافتقار إلى القوة المادية والعلمية الحديثة والإرادة السياسية المستقلة

ترتّبت على نتائج الحرب العالمية الأولى تغييرات دولية جذرية لم تبق وضعاً في العالم على ما كان عليه قبلها. فعلى سبيل المثال زالت الدولة العثمانية نهائياً من الوجود لتنهض الدولة السوفييتية من شبه العدم. ودخلت أوروبا الغربية الرأسمالية الاستعمارية طور الانكفاء والضعف الدولي التدريجي لتبدأ الولايات المتحدة صعودها الدولي العظيم الذي بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كانت الأمم جميعها، الثرية القوية والفقيرة الضعيفة، الظالمة والمظلومة، عرضة لتغييرات جذرية نوعية تاريخية سببها الرئيسي بداية انتقال النظام الرأسمالي الدولي من مرحلة الاستعمار العسكري المباشر إلى مرحلة الاستعمار الإمبريالي غير المباشر، الذي اكتمل تقريباً بسيادة الإدارة الأميركية بعد الحرب الثانية.. الخ.
إنّ ما نريد الوصول إليه، بعد هذا المدخل العام المقتضب، هو الإشارة إلى أوضاع الأمة العربية وأحوالها في ذلك المنعطف التاريخي الدولي ثمّ في ما تلاه. فالرهان على إصلاح أوضاع الرابطة العثمانية وتجدّدها ونهوضها كان قد سقط نهائياً وتجاوزته التطورات الدولية العاصفة. وقد راحت النخب العربية، انطلاقاً من حالة أمتها الأقرب إلى العدم، تتلمس طريقها إلى تحقيق حضورها السياسي ولو في الحدّ الأدنى.
كانت الأمة العربية المستعمرة، المقطعة الأوصال، التي تعيش في ظلام دامس، تفتقر تماماً إلى القوة المادية والعلمية الحديثة وإلى الإرادة السياسية المستقلة تبعاً لذلك. وكان ذلك كفيلاً بزوالها لاحقاً وسريعاً، سواء على أيدي المستوطنين الفرنسيين في الجزائر أم على أيدي المستوطنين الجدد الصهاينة في فلسطين. غير أنّها، لحسن الطالع، كانت من جهة أخرى غنيّة نفسيّاً وروحياً وذهنياً بفضل تراثها التاريخي العظيم. وهل نجت الجزائر من الهلاك إلاّ بفضل التراث العربي الإسلامي؟ ولو أنّ الجزائر تفرنست وانتهى الأمر فهل كان ثمّة مغرب عربي، بل أمة عربية؟
في العام 1920، كان الفقر والاضمحلال العربي شاملاً. فتعداد سكّان مدينة رئيسية، كمدينة حماة السورية مثلاً، هبط هبوطاً مريعاً إلى ما لا يتجاوز العشرين ألفاً، وليس فيها سوى مدرستين اثنتين، ابتدائية وإعدادية، فقط لا غير، وقس عليها في جميع أنحاء الوطن العربي الكبير معظم المدن إن لم يكن جميعها تقريباً! غير أنّ الأمة صمدت بفضل تراثها العريق المهيب، وبفضل نضال حركاتها القومية واليسارية والإسلامية، وسرعان ما بدأت تستردّ عافيتها وتستكمل نواقصها العصرية الفادحة. وإنّها لمعجزة أنّها نجحت في استكمال الكثير من النواقص، مع الاعتراف والأخذ بالاعتبار أنّ التحوّلات الانتقالية الدولية سهّلت لها ذلك.
وبعد الحرب العالمية الثانية انطلقت مرحلة استقلال المستعمرات في جميع أنحاء العالم. وقد شجعت واشنطن ورعت استقلال المستعمرات عموماً، لقطع الطريق على تصاعد نضال الشعوب واحتوائه من جهة، وللاستيلاء على تركة الاستعمار القديم المباشر من جهة أخرى، فكانت هيئة الأمم هي وسيلة الاحتواء، وكانت المخابرات والقروض الأميركية والنخب المحلية في المستعمرات السابقة هي وسيلة الاستيلاء.
لقد كان نصيب العرب عظيماً في عمليتي الاحتواء والاستيلاء. ولم يتردّد كبار المسؤولين الأميركيين في القول أنّ البلاد العربية، وبخاصة النفطية ومعها إيران، وعلى الأخصّ فلسطين، كانت الجائزة الكبرى التي ربحتها واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الحقبة الأميركية، المستمرّة حتى يومنا هذا، تواصل النضال العربي، والإيراني أيضاً، من أجل الاستقلال الحقيقي والوحدة من جهة، وفي مواجهة السرطان الإسرائيلي الذي زرع في قلب المنطقة من جهة أخرى، فكانت سلسلة الحروب النظامية الرسمية التي بدأت في العام 1948، ناهيكم عن الثورات والمقاومات الشعبية التي كانت تنهض باستمرار، بإرادة الأنظمة العربية أحياناً وخلافاً لإرادتها في أغلب الأحيان.
غير أنّ الحروب النظامية الرسمية المتوالية التي خاضها العرب كانت جميعها تفتقر افتقاراً كبيراً إلى الإرادة السياسية المستقلة استقلالاً كافياً، وكانت قياداتها الميدانية تفتقر إلى العدّة والعتاد في وجه قوات أطلسية تتفوّق عليها بما لا يقاس عدّة وعتاداً. لقد كانت مصادر التسلّح النظامي العربي موجودة خارج حدود الدول العربية، وكانت ثمّة خلل في تلك الحروب النظامية، من حيث تكافؤ القوى، يستحيل إصلاحه مع الحفاظ على الاستقلال السياسي. لكنّ النظام الرسمي العربي بقي متشبّثاً بأسلوب الحرب النظامية الرسمية، ويبدو أنّ العدو كان سعيداً بمثل هذا التشبّث، وهو يستميت اليوم من أجل العودة إلى أسلوب الحرب النظامية التي يربحها دائماً، بل يضمن ربحها مسبقاً.
وجدير بالذكر أنّ بعض الأنظمة العربية حاولت الخروج على اللعبة الشيطانية، لعبة الحروب النظامية التي تدوم لأيام قليلة وتنتهي في دهاليز مجلس الأمن الذي يجعل منها كارثة جديدة تحلّ بالعرب، فعملت على تحقيق التكامل بين الحرب النظامية والحرب الشعبية، بحيث لا يتوقف الاشتباك المسلّح بعد أيام من القتال، وتحال القضية إلى جامعة الدول العربية أو إلى مجلس الأمن، لكنّ تلك الأنظمة لم تستطع المواصلة، وأبيدت على أيدي النظام الرسمي العربي قبل النظام الدولي وبإيعاز منه.
وعلى الرغم من جميع الظواهر السلبية، وبغضّ النظر عن الأخطاء كلّها، فقد برز العراق مرّتين كأنّما هو على وشك تجاوز المعضلة التاريخية والخروج على اللعبة الرسمية الشيطانية: المرّة الأولى في عهد الرئيس صدّام حسين، عندما بدا العراق وقد غدا على وشك امتلاك إرادته السياسية ومناعته الذاتية بفضل حسن استخدامه لثرواته المائية والنفطية والعلمية العظيمة، والمرّة الثانية بعد الاحتلال، حيث نجحت المقاومة العراقية في تدمير البعد العالمي للحلم الأميركي المتوقّف تحقيقه على امتلاك العراق دون مقاومة، ونجحت في توفير الشروط لتغييرات دولية عميقة في موازين القوى، وهي التغييرات التي جاءت لغير مصلحة الأميركيين وحقّقت نهوض دول عظمى جديدة. لكنّ الأميركيين في المحصلة، ويا للأسف والعجب، حققوا أهدافهم العراقية في العراق، وهذا يدلّ على أنّ العراق (في المرّتين) ظلّ يفتقر إلى شروط سياسية أساسية ضرورية لم تتوفّر له بعد!
إنّ لحظة العرب التاريخية، التي يتحقّق فيها نهوضهم، لم تحن بعد. وكما يبدو، فإنّهم لن يمتلكوا مثل هذه اللحظة قبل أن يتلافوا نواقصهم السياسية الأساسية، لكنّها لحظة آتية لا ريب إن عاجلاً وإن آجلاً. وكيف لا وقد امتلكها جيرانهم وإخوانهم الإيرانيون الذين لا يختلفون عنهم في شيء تقريباً؟
نصر شمالي
أحدث أقدم

نموذج الاتصال