كتب المبدع أمل دنقل استرابة الدكتاتور في النيل؛ فمن يكتب استهانته؟
النيل الذي يجري في قصيدة أمل بين الشجر الملتف والقناطر الخيرية، يكاد لا يكون ملحوظا، ولم يعد يبتهج بحمل العشاق في الزوارق الليلية، وإن حملهم فقد ينتهي الأمر بكارثة غرق، بسبب انعدام الرقابة على الزوارق ومواصفاتها الفنية، كما حدث مؤخرا في كارثة غرق تسع تلميذات.
لم يعد شريان الحياة في مصر يذكر الآن، إلا في الجعجعات حول تمرد دول المنبع على اتفاقية اقتسام المياه، وأحيانا عندما تبدي إسرائيل تلمظا للماء العذب، عند ذلك فقط تكون 'مياه النيل خطا أحمر'!
هذه العبارة البليدة تجري بسهولة على ألسنتهم، ويستطيع أي مسؤول في مصر أن يتحدث عن الخط ويحدد لونه بكل وضوح. وأكثر من الجملة الإنشائية التافهة لا يعرف المسؤول ماذا يحدث لو أن أحدا من الشركاء في الجنوب أو الأعداء في شمال الشرق تجاوز الخط، وقد فعلها وزير خارجية الكيان الإرهابي عندما هدد بنسف السد، كما يفعلونها سراً وجهراً بتقوية علاقاتهم في كل المجالات مع دول المنابع!
ومع ذلك، فإن الذود الكلامي عن الخط الأحمر في الجنوب والشمال أفضل من الصمت المريب عما يجري لحصة مصر من الماء عندما تتخطى بحيرة السد، حيث يتدهور مجرى النهر بالتلوث وتتدهـــــور شـــبكة التــــرع والقنـــوات والوزارة المسؤولة عنها التي كانت أولى الوزارات السيادية قبل الدفاع والخارجية.
' ' '
كانت مصر تتعهد نهر الحياة قبل أن يدخل إلى أراضيها، وكان مهندس الري أهم من سفير الدولة. وتحتفظ الوثائق المصرية بقرار لعبد الناصر يقضي بالمبادلة بين بيت مهندس الري المصري في الخرطوم وبين مبنى السفارة المصرية، لأن بيت المهندس كان أفخم من السفارة، كذلك كان مهندس الري أهم شخصية في الأرياف. الآن لم يعد هناك وجود لمهندس الري أو وزارته، ولا مهندس الزراعة أو وزارته، وأهملت الدورة الزراعية التي كانت تحدد احتياجات البلاد من المحاصيل المختلفة من جهة ومن جهة أخرى تمنع استنزاف العناصر الغذائية من التربة بتدوير الزراعات على الأرض. وقد كانت هذه الدورة قائمة في عصور الاشتراكية والرأسمالية منذ الفراعنة حتى ما قبل هذه الحقبة الفوضوية المباركة!
لم تعد هناك دورة زراعية منذ سنوات طويلة، والجديد هذا العام، وللمرة الأولى في التاريخ هو ترك الفلاحين الأرض السوداء في الدلتا بوراً، لأن تجهيز الأرض للزراعة صار يكلف أكثر مما تنتجه بعد موسم من الشقاء يمتد لستة أشهر.
كان تبوير الأرض يعد كفراً في عرف المصريين، لكنهم اضطروا أخيراً لاقتراف الكفر، في ظل السياسات قليلة الحياء التي تبالغ في أسعار البذور والسماد والمبيدات وتستخدم الماء في ملاعب الغولف والبحيرات الصناعية في مدن الأسوار التي ينشئها رجال الأعمال القتلة!
لا أحد يهتم بالإنتاج، وخاصة الزراعي، وإن جرى حديث عن الزراعة فهو عن استصلاح الصحراء.
وهذا يبدو جنوناً في عرف المراقب العجول؛ إذ لا يوجد عقل يستسيغ تبوير الأرض الخصبة التي تكونت في ملايين السنين واستزراع الصحراء القاسية قليلة الرجاء، لكن الأمر يبدو مفهوماً في إطار اقتصاد السمسرة والتربح من الهواء، حيث يتبارى رجال الأعمال ـ الذين فاتتهم عطايا أراضي البناء الصريحة ـ في تملك المساحات الشاسعة من الأرض الصحراوية بالملاليم بزعم الزراعة، بينما يضمرون نية تحويلها إلى منتجعات سكنية تدر المليارات، أي أن زراعة الصحراء ليست سوى تمثيل في تمثيل، بينما تنام الحقيقة المرة تحت الشمس في الأرض السوداء، لتضاف سابقة جديدة في سجل سوابق تجريد البلاد من عافيتها.
' ' '
ذات يوم ستنتهي هذه الحقبة السوداء من تاريخ مصر، وسوف تدرس بوصفها معجزة سياسية وتأكيداً لحجم مصر الكبير، فليس غيرها من دولة تستطيع البقاء على قيد الحياة عقوداً طويلة من غير أن يحدث فيها شيء واحد له صلة بالصالح العام!
استثمارات بالمليارات تتركز كلها في العقارات والمضاربة على أراضي البناء وما يرتبط بمستلزمات هذا الاقتصاد التافه من صناعة السيراميك والحديد، ومعها بيزنس الاتصالات والمواصلات في سوق لا تتسع إلا لحفنة من المليارديرات، بينما تتعرض الأموال الصغيرة والمتوسطة للاحتقار، ولا قيمة للعمل أو من يعملون.
الشعب الذي فقد إرادته السياسية بالثورة المباركة؛ لأن الزعيم يقرر نيابة عنه، يفقد إرادته الاقتصادية في عهد النهب المبارك؛ لأن حفنة من المليارديرات يعملون نيابة عنه، لكنه في الحقيقة ليس عملاً، بل مجرد سمسرة ومضاربات على السلع واحتكارات وحيازة للثروة العقارية بلا جهد وبالمخالفة لمبدأ المساواة بين المواطنين.
ولا يمكن لأوضاع كهذه أن تستمر، بل ستجري الأمور نحو نهاياتها المحتومة.
والخوف، كل الخوف، أن يمتد الخطان الأحمران ليصبغا خريطة مصر بلون الدم، إذا استمر الجشعون المجانين في دفعها نحو عنف لا يروجونه لها أحد؛ فحتى الأعداء يخشون على أنفسهم من مثل ذلك العنف.
عزت القمحاوي
التسميات
عرب