الحديث عن الصحافة في بيروت له طعم خاص، ليس فقط لأن بلاد الأرز كانت مهدا لصناعة الحرية أواسط القرن الـ19، وليس لأنها كانت ملاذا آمنا لحرية الرأي والتعبير في بحر الجهالة العربية، ولكن لأن بيروت اليوم مازالت تذرف الدموع على شهيدين صحفيين: الأول هو جبران تويني الذي اغتيل قبل أربع سنوات، ومازالت صورته تغطي مبنى جريدة «النهار» العريقة وسط العاصمة، تذكر الزوار وأهل البلد بأن هناك قاتلا ومقتولا وجريمة، لكن العدالة لم تصل بعد إلى الحقيقة. أما القلم الثاني الذي كُسر تحت لغم غادر، فهو سمير قصير الذي يقبع تمثاله في أهم ساحة في لبنان، وأمامه بركة ماء تعكس حزنه على بلاد يموت فيها المرء لأنه يخط كلمات سوداء فوق ورق أبيض.
بيروت مازالت مجروحة لأن شهيدها الكبير رفيق الحريري مازالت آثار دمائه عالقة فوق كل شيء في لبنان... الشعارات، القبر، الصور، المباني، كلها مازالت تبكي رئيس وزراء دخل إلى قلوب الناس قبل عقولهم... لهذا قُتل لأنه كان يبني ويرمم خراب بيروت، ولم يكن ينتج الشعارات والخطب العصماء والدسائس في كواليس السياسة بين دروب الطائفية التي تخنق هذه البلاد.
قلت في مؤتمر الاتحاد العالمي للصحف وناشري الأنباء «WAN-IFRA»: «إنني لست متفائلا بمستقبل الصحافة الحرة في بلادي وفي بلاد العرب، ليس لأنني متشائم أو ألبس نظارات سوداء من الماضي، ولكن أنا من الذين يرون المستقبل كما هو لا كما أريده أن يكون.. أنا لا أرى ربيعا صحفيا يلوح في الأفق، فالصحافة مثل الأسماك لا تعيش سوى في ماء الحرية.. والحرية لا تتنفس إلا في أجواء الديمقراطية، والديمقراطية لا تنبت في مكان لا يؤمن بالتعددية واقتسام السلطة ونسبية الحقيقة»...
هناك اليوم توتر متزايد في علاقة الصحافة الحرة بالحكومات غير الديمقراطية في المنطقة، ليس لأن الصحافيين أصبحوا معارضين لأنظمتهم، وصارت لهم ميليشيات ومخططات لقلب أنظمة الحكم، ولكن لأن الحكومات والأنظمة ليس على أجندتها شيء اسمه الديمقراطية، فلماذا تسمح لبنات الديمقراطية بأن يتحركن على رقعة السياسة في البلاد؟
الأنظمة العربية تريد مقعدا دائما في غرف تحرير الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزات، وتريد توجيه دفة الأخبار لما تراه صالحا للمواطن... وهنا المفارقة. الصحافة لا تعيش في بيت واحد مع ضرتها السلطة، لأن مبرر وجود الإعلام هو مراقبة السلطة، والمشكلة أن السلطة العربية أدمنت الحضور في غرف التحرير، وأن الكثير الكثير من زملاء المهنة قبلوا بوصاية السلطة عليهم، وبالتالي أصبح كل صحافي يطالب بخروج السلطة من غرف الأخبار معارضا أو عدوا أو كلبا ضالا، على حد تعبير العقيد الليبي امعمر القذافي، الذي يصف الصحافيين بالكلاب الضالة، وأنا لا أنظر إلى الوصف بمعناه القدحي.. اعتبرونا كلابا ضالة وامنحونا الحق في النباح وحرية الحركة، على عكس الكلاب الأليفة التي تنام وتأكل تحت أرجل الحكام، ولا تتحرك إلا بالأوامر المدنية والعسكرية.
المنطقة العربية سائرة إلى خريف ديمقراطي طويل، لأن الأحزاب ضعفت حتى أصبحت نعاجا تسلم رقابها للذبح كل صباح، والمجتمعات العربية مفككة يشغلها الخبز والبطن وما تحت البطن، والغرب المنافق مشغول بالحرب على الإرهاب وصناعة الأعداء.. بالأمس كان العدو أحمر، واليوم صار أخضر، وأصبحت ورقة مكافحة الإرهاب جواز مرور إلى نادي أصدقاء أوربا وأمريكا، ولا أحد يسأل عن الديمقراطية والحرية والتعددية والصحافة... وطبعا قبيلة الصحافة بدورها تتحمل مسؤولية الوضع الراهن، فليست كل أيديها بيضاء من سوء الوضع القائم، لكن هذه قصة أخرى.
حكى رجل مصري في المؤتمر حكاية طريفة تقول إن الأمن المصري منع إدخال الهواتف النقالة المزودة بكاميرا إلى مخافر الشرطة، بعد أن تسربت صور وأشرطة عن التعذيب في أقبية تلك المخافر، فصار رجال الشرطة يفتشون الداخل والخارج ويمنعون دخول الهواتف... زميلنا الصحافي كان في زيارة لمخفر شرطة، فطلب منه الحراس تسليم الآلة المعلقة في خصره، فقال لهم: هذه ليست هاتفا نقالا. فقالوا: ما هي؟ قال: هذه كاميرا. فقالوا له: «لا بأس أدخلها، الهواتف المزودة بكاميرا وحدها الممنوعة في مخافر الشرطة»... نعم من البلادة ما يضحك.
توفيق بوعشرين
التسميات
عرب