تواصل آخر الأخبار أحاديثها عن تفاقم المشاكل والصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً. ويتردّد على ألسنة الأميركيين بلا انقطاع لفظ 'المؤامرة'! إنّ الأميركيين يتبنّون اليوم على نطاق واسع 'نظرية المؤامرة' ويا للعجب، وهو ما يسبّب حتماً الخيبة الكبيرة والانزعاج الشديد لليبراليين العرب الذين طالما دحضوا هذه النظرية 'الهروبية السخيفة المصطنعة'، وسخروا منها ومن أصحابها!
'إنّ الأميركيين عموماً يتحدّثون حالياً عن مؤامرات داخلية رهيبة تعصف بحياتهم وبمستقبلهم. وهي حسب وصفهم لها مؤامرات غامضة، شيطانية، أبرزها تلك التي كشفوا عنها مؤخّراً، والتي حاكتها كالعادة المصارف الأميركية الربوية العملاقة، مؤامرة سندات الاقتراض البلدية (مشاريع الصرف الصحي الهائلة) التي يقودها 'بنك أوف أميركا'، وإلى جانبه طبعاً مصارف 'سيتي غروب' و'غولدمان ساكس' و 'جي. بي. مورغان' وغيرها. إنّها مؤامرة كفيلة بنهب حوالي ثلاثة تريليونات دولار من الشعب الأميركي (التريليون يساوي مليون مليون دولار!) أي من دافعي الضرائب كما يحب الأميركيون أن يقولوا! (للمزيد راجع صحيفة 'الأخبار' البيروتية نزار عبود 27/5/2010).
وبينما نرى المدعي العام الأميركي وهو يتابع التحقيق مع المصارف الكبرى في الداخل، بصدد مؤامرتها على أموال البلديات، نستمع أيضاً إلى الجنرال ديفيد بتراوس، قائد القيادة الأميركية الوسطى في الخارج، وهو يصدر أوامره بانطلاق فرق من المخابرات العسكرية ورجال الأعمال والأكاديميين للتجسس في عدد من البلدان العربية والإسلامية، من أجل تحديد المخاطر وتعيين الناشطين، ومن أجل 'خلق وعي دائم' في هذه البلدان! وتقول مصادر الأخبار أنّ الهدف يمكن أن يكون التمهيد لعمليات حربية ضدّ هذا البلد أو ذاك، بوساطة القوات الأميركية أو بوساطة قوات البلد المستهدف!
إنّ الجنرال بتراوس في الخارج، بموازاة المدّعي العام العدلي في الداخل، يعمل أيضاً على كشف 'مؤامرات' الشعوب ضدّ الهيمنة 'المشروعة' لحكومة بلاده ومصارفها! وليس أدلّ على ذلك من تأكيد نعوم تشومسكي مؤخّراً، في بيروت، أنّ' 'الخطر الإيراني بالنسبة لواشنطن يكمن في أنّ طهران لا تطيع أوامر عرّاب المافيا (يقصد حكومة الولايات المتحدة). أي أنّ مشكلة إيران ليست في مفاعلها النووي بل في عصيانها. وقد سخر تشومسكي من المنطق القائل أنّ إيران متورّطة في زعزعة استقرار جيرانها، وأنّها تسعى لبسط نفوذها، وقال متهكّماً أنّ الغريب هو كون الولايات المتحدة متورّطة في ما تتهم إيران به. ولكن يبدو أنّ تورطها العسكري، واحتلال العراق وأفغانستان، يأتي في سياق إرساء الاستقرار، ويا للعجب!
بالطبع، من الحمق تحميل جميع أسباب مآسي الشعوب للمؤامرات والمتآمرين في الخارج. ولكن أليس من الحمق أيضاً، ولا نقول أكثر، السخرية من 'نظرية المؤامرة' واستبعادها؟ وما هي سياسات لندن وواشنطن بصدد فلسطين، على مدى القرون والعقود الماضية وحتى اليوم، إن لم تكن سلسلة من المؤامرات أدّت إلى اغتصاب فلسطين وإحلال الصهاينة اليهود محلً أصحابها العرب؟ وما هو تظاهر واشنطن بأنّها تقوم بدور الوسيط المحايد النزيه بين الإسرائيليين والعرب إن لم يكن مجرّد مؤامرة فعلاً؟
يقول تشومسكي أنّ الإسرائيليين والأميركيين واصلوا ويواصلون طيلة الوقت العمل على أن تأخذ 'إسرائيل' كلّ شيء: الموارد والأراضي والقدس وغور الأردن، وأن تترك للفلسطينيين مناطق قاحلة تالفة، إذا أرادوا تسميتها 'دولة' فليكن لهم ما يريدون، بينما يتظاهر الأميركيون طيلة الوقت أنهم يقومون بدور الوسيط الصادق النزيه! ما هي المؤامرة إن لم تكن هذا الذي يفعله الأميركيون، وما هي 'إسرائيل'، حسب تشومسكي، إن لم تكن انعكاساً للولايات المتحدة؟ ألم تستعمرا كلتاهما الأراضي، وتبيدا كلتاهما السكان الأصليين، وتستخدما كلتاهما الخطاب الديني لتبرير أعمالهما؟ ( للمزيد راجع صحيفة 'السفير' البيروتية_ جنان جمعاوي 27/5/2010).
في العام 1967 كان النظام الاستيطاني العنصري في جنوب أفريقيا يعتقد أنّ الولايات المتحدة لن تتخلّى عنه أبداً، وعلى هذا الأساس قال وزير خارجيته للسفير الأميركي: 'إننا نفهم أننا معزولون عن دول العالم، لكننا نفهم أيضاً أنه لا يوجد في هيئة الأمم سوى صوت واحد، هو صوت أميركا'! وهكذا، أليس التظاهر بأن هيئة الأمم ديمقراطية دولية هو مؤامرة؟ طبعاً هو كذلك! غير أنّ واشنطن، لأسباب ليس هنا مجال استعراضها، تخلّت عن العنصريين في جنوب أفريقيا. أمّا في فلسطين المحتلة فإنّ الإسرائيليين يراهنون حسب تشومسكي على أنّ واشنطن معهم ولن تتخلّى عنهم، ولذلك لن يهزموا!
نعود إلى المؤامرات الأميركية الداخلية، ضدّ الشعب الأميركي بالذات، لنرى كيف أنّها استعرت واشتدّت بعد الفشل الذي أصابها تكراراً في الخارج، بخاصة وتحديداً بعد الاحتلال المتعثّر المضطرب للعراق. 'فالأقلية الثرية التي تحكم الولايات المتحدة لا تتورّع عن تفجير الأزمات في الداخل عندما تصبح مثل هذه التفجيرات غير مربحة في الخارج، ولا تتورّع عن نهب شعبها بالذات عندما تضطرب عمليات النهب في الخارج وتصبح غير مجدية إلى هذا الحدّ أو ذاك!
لقد بلغت الولايات المتحدة ذروة ثرائها في خمسينيات القرن الماضي، بعد أن وضعت يدها على النفط في بلادنا، وهو السلعة الأهمّ في العالم، التي تمكّن من يسيطر عليها من السيطرة على العالم. لقد كانت الولايات المتحدة، التي يشكّل سكانها سدس سكّان العالم، تمتلك حينئذ لوحدها نصف ثروة العالم! غير أنّ الحال اختلف في مطلع السبعينيات، حيث انخفض الرقم إلى الربع بسبب النهوض الاقتصادي/المالي العظيم في أوروبا الغربية واليابان، فكان أن انطلقت المؤامرات والحروب (في بلادنا العربية خصوصاً) لتعديل الموازين المالية الدولية لصالح الولايات المتحدة، وقد كان أهمّها حرب 1973 التي (بفضل النفط وأسعاره) أعادت ولو مؤقتاً توزيع الكتلة النقدية الدولية لصالح أثرياء واشنطن!
اليوم اختلف وضع العالم كثيراً في غير مصلحة الصهاينة أثرياء الولايات المتحدة وحكامهــــا، ولذلك اشــــتدّت مؤامرات هؤلاء الأثرياء واتسعت لتشمل شعب الولايات المتحدة، ولتصبح موضوع 'شكاواه اليومية. وبالطــــبع، إذا عجز أثرياء الولايات المتحدة وحكامها عن استرداد مكانتهم الدولية، المالية والسياسية، إلى حدّ معيّن، فإنهم سوف يعجـــزون بالتالي عن مواصلة دعمهم المطلق للكيان الإسرائيلي!
التسميات
أمريكا