الأحكام القانونية التفصيلية للنفقة في قانون الأسرة:
تُعد النفقة التزاماً جوهرياً يفرضه القانون لضمان العيش الكريم للأفراد الذين تربطهم بالملزَم بالنفقة صلات محددة. يوضح القانون المبادئ العامة التي تحكم هذا الالتزام، من تحديده ومقداره إلى طريقة تنفيذه وترتيب الأولويات عند العجز.
الباب الأول: أحكام عامة وإطار الوجوب:
1. أساس الوجوب والمصدر المالي (المادة 187):
المبدأ الأساسي هو أن نفقة كل إنسان هي في ماله الخاص. لا يمكن تحميل شخص بنفقة غيره إلا بموجب نصوص قانونية صريحة تُنشئ هذا الالتزام. وتنحصر الأسباب القانونية التي توجب النفقة على الغير في ثلاثة مصادر رئيسية:
- الزوجية: وتتعلق بنفقة الزوجة على زوجها.
- القرابة (النسب): وتشمل نفقة الأصول على الفروع (كالأبناء على الآباء والأمهات) والعكس (الآباء والأمهات على الأبناء).
- الالتزام (السبب): ويقصد به أي التزام أو تعهد آخر يفرضه القانون أو يترتب على تصرف قانوني.
2. شرط الملاءة والقدرة على الإنفاق (المادة 188):
القانون يضع شرطاً منطقياً وأخلاقياً لفرض النفقة على الغير، وهو أن لا تجب على الإنسان نفقة غيره إلا بعد أن يكون له مقدار نفقة نفسه. بمعنى آخر، يجب أن يُؤمِّن الملزَم بالنفقة احتياجاته الأساسية أولاً.
- افتراض الملاءة: يفترض القانون مبدئياً ملاءة الشخص الملزَم بالنفقة وقدرته المالية على أدائها.
- عبء الإثبات: يقع عبء إثبات العكس (أي إثبات العجز أو الإعسار) على عاتق الملزَم بالنفقة.
3. مكونات النفقة ونطاقها (المادة 189):
تُحدد المادة 189 المكونات الأساسية للنفقة، مؤكدة على شموليتها لتغطية جميع الاحتياجات الضرورية:
- المكونات الأساسية: تشمل النفقة بشكل عام الغذاء، والكسوة، والعلاج (الرعاية الصحية)، وما يُعتبر من الضروريات الأساسية في الحياة اليومية.
- نفقة الأولاد التعليمية: تُضاف إلى الضروريات الأساسية التعليم للأولاد، شريطة مراعاة أحكام سن الحضانة وولاية الأب، كما وردت في المادة 168 (التي تتعلق باستمرار نفقة الأب على البنت إذا كانت في سن تستوجب الإنفاق، ونفقة الولد إذا كان يتابع دراسته).
معايير التقدير: يراعى القاضي عند تقدير مبلغ النفقة مجموعة من المعايير لتحقيق التوازن والعدل:
- التوسط: يجب أن يكون التقدير ضمن حدود التوسط دون إسراف أو تقتير.
- الدخل والوضع الاقتصادي: يؤخذ بعين الاعتبار دخل الملزَم بالنفقة وحال مستحقها (الحاجة الفعلية).
- العوامل الخارجية: تُراعى مستوى الأسعار والأعراف والعادات السائدة في الوسط الاجتماعي الذي تُفرض فيه النفقة.
البت القضائي، التنفيذ، وسريان الحكم:
4. الإجراءات القضائية وسرعة البت (المادة 190):
لضمان حقوق المستحقين وعدم تعطيلها، يحدد القانون إطاراً زمنياً وإجرائياً لبت المحكمة في قضايا النفقة:
- الاعتماد على الحجج: تعتمد المحكمة في تقدير مبلغ النفقة على تصريحات الطرفين وحججهما (الأدلة والمستندات التي تثبت الدخل أو الحاجة)، مع مراعاة أحكام المادتين 85 (الذي يوجب على الزوج تقديم بيانات حول دخله) و 189 (مكونات النفقة ومعايير التقدير).
- الاستعانة بالخبرة: للمحكمة صلاحية الاستعانة بالخبراء لتقدير الدخل أو تحديد قيمة النفقة بشكل دقيق.
- الإطار الزمني الإلزامي: يتعين على المحكمة البت في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد من تاريخ رفع الدعوى، مما يؤكد على صفة الاستعجال لهذه القضايا.
5. طرق التنفيذ وضمان الاستمرار (المادة 191):
يمنح القانون المحكمة سلطة تحديد وسائل تنفيذ الحكم بالنفقة لضمان استمرار وصولها إلى المستحق:
- التنفيذ على الأموال: للمحكمة أن تقرر تنفيذ الحكم بالنفقة وتكاليف السكن على أموال المحكوم عليه.
- الاقتطاع المباشر: يمكن أن تأمر المحكمة بـاقتطاع النفقة من منبع الريع أو الأجر الذي يتقاضاه الملزَم بالنفقة (كالاقتطاع من الراتب الشهري مباشرة).
- الضمانات: تقرر المحكمة عند الاقتضاء الضمانات الكفيلة باستمرار أداء النفقة، مثل طلب كفيل أو رهن ضمان.
- سريان الحكم: الحكم الصادر بتقدير النفقة ليس حكماً مؤقتاً بالضرورة؛ بل يبقى ساري المفعول بصفة مستمرة إلى أن يحدث أحد أمرين:
- صدور حكم قضائي آخر يحل محله (كتعديل بالزيادة أو النقصان).
- سقوط حق المحكوم له في النفقة (كوصول الأولاد إلى سن الرشد وانتهاء التعليم، أو انتهاء العلاقة الزوجية في حالة نفقة الزوجة).
6. حدود التعديل (الزيادة أو التخفيض) (المادة 192):
لتحقيق استقرار المبالغ المقررة قانوناً، يضع القانون قيداً زمنياً على طلبات تعديل النفقة:
- المدى الزمني: لا يقبل طلب الزيادة أو التخفيض في النفقة المتفق عليها (بموجب عقد أو صلح) أو المقررة قضائياً، قبل مضي سنة واحدة من تاريخ الاتفاق أو الحكم.
- الاستثناء: يمكن تجاوز هذا القيد الزمني في ظروف استثنائية قاهرة أو تغيرات جوهرية غير متوقعة تثبت الحاجة الملحة للتعديل (مثل فقدان العمل، أو مرض خطير، أو ارتفاع جنوني للأسعار).
ترتيب الأولويات عند العجز (المادة 193):
إذا كان الملزَم بالنفقة غير قادر مالياً على أدائها لكل من يلزمه القانون بالإنفاق عليه (نتيجة لتعدد المستحقين مع قلة الدخل)، يحدد القانون ترتيباً للأولويات لضمان توجيه الدخل المحدود إلى الفئات الأكثر استحقاقاً:
- الزوجة: تتقدم نفقة الزوجة على غيرها.
- الأولاد الصغار (ذكوراً أو إناثاً): تأتي نفقة الأبناء القصر في المرتبة الثانية.
- البنات (الكبيرات): ثم تليها نفقة البنات غير المتزوجات أو المتبوعات.
- الذكور (الكبار): ثم الأبناء الذكور الذين لم يعد لهم حق في النفقة إلا لسبب محدد (كالدراسة).
- الأم: تليها نفقة الأم.
- الأب: تليها نفقة الأب.
هذا الترتيب يضمن تلبية احتياجات الفئات الأكثر قرباً والأكثر حاجة أولاً في حالات العسر والعجز المؤقت للملزَم بالنفقة.