المنهج القائم على القضايا: محور لتطوير الكفاءات التفكيرية
يُشير التنظيم المبتكر للمحتوى التعليمي إلى المكانة المحورية التي يحتلها تطوير الكفاءات التفكيرية لدى المتعلمين ضمن هذا المنهج. فبدلاً من التركيز على المعارف المجزأة، يتم بناء الهيكل التنظيمي للبرنامج التعليمي بأكمله على أساس القضايا، المشاكل، أو المعضلات المعقدة التي تستوجب دمج وتوظيف مواضيع من مجالات معرفية متعددة. هذا النهج يرسخ مبدأ أن المعرفة ليست غاية بحد ذاتها، بل هي أداة لحل المشكلات وفهم العالم.
تطبيق النموذج: وحدة الأرض والبيئة كمثال:
لتوضيح هذا المفهوم، نجد في وحدة تخصص مثل "الكرة الأرضية والبيئة" أن التدريس لا يعتمد على عرض مجالات منفصلة كالجيولوجيا والجيومورفولوجيا والمناخ (الكليموتولوجيا) بشكل منعزل. بل تُدرس هذه المجالات كأجزاء متكاملة ضمن سياق قضايا حيوية مثل:
- الكوارث الطبيعية وكيفية مواجهة الإنسان لها: حيث يتطلب فهم هذه الكوارث إدماج مفاهيم من الجيولوجيا (أسباب الزلازل)، الجيومورفولوجيا (تأثير التضاريس)، والكليموتولوجيا (السيول والأعاصير)، بالإضافة إلى الجغرافيا البشرية (التخطيط العمراني وإدارة الأزمات).
- التغيرات البيئية الكونية: هنا يتم دمج مواضيع الجغرافيا الطبيعية المتنوعة لفهم العلاقات المتبادلة والمعقدة بين الإنسان والبيئة الطبيعية وظواهرها. هذا التكامل يمنح المتعلم رؤية شاملة وعميقة للقضية.
الطاقة التعليمية (الديداكتيكية) الكامنة في تنظيم المضامين:
إن تنظيم المحتوى في صورة قضايا أو معضلات يطلق طاقة تعليمية هائلة (ديداكتيكية) تتمثل في عدة جوانب حيوية:
1. بناء أساس للتفكير الرفيع:
يُنشئ هذا التنظيم قاعدة متينة لعمليات تعليم-تعلم تهدف إلى تخريج تلميذ ذي كفاءات تفكيرية عالية، مركزة على التفكير الناقد، المبدع، والعلمي. يتجلى ذلك في:
- الاستعمال المنطقي لاستراتيجيات التفكير: مثل صياغة الأسئلة الموجهة، وبناء الحجج المقنعة، وإجراء المقارنات المعمقة.
- حل المشكلات واتخاذ القرارات: التعامل مع مشاكل مركبة ليس لها حل واحد مؤكد، وتطوير القدرة على اتخاذ القرارات المدروسة.
- تعدد وجهات النظر: تنمية قدرة التلميذ على التمعن في المشكلة من وجهات نظر مختلفة (قد تكون متناقضة أحياناً)، وطرح اقتراحات معللة لتشكيلة من الحلول.
2. توجيه عملية تعلم معلوماتية وتنمية التنوّر المعلوماتي:
لتحقيق أقصى استفادة من مصادر المعلومات وتطبيقها منطقياً، لا بد من اكتساب مهارات التنوّر المعلوماتي، والتي هي جزء أصيل من مهارات التعلم والتفكير المستهدفة. ويتم تطبيق ذلك عملياً من خلال:
- الاستخلاص الذاتي للمعلومات: يبدأ تدريس كل موضوع أو موضوع فرعي في الوحدات التعليمية بتحميل مسؤولية استخلاص المعلومات على عاتق التلاميذ أنفسهم، بصورة مستقلة، من مصادر متعددة ذات صلة بالقضية المدروسة.
3. تفعيل عملية التعلم والتجاوز لمرحلة الحفظ:
يُوجه هذا المنهج العملية التعليمية نحو التعلم الفعّال الذي يتجاوز مجرد حفظ المعلومات عن ظهر قلب. التفكير في المشكلة واستخدام المعلومات لحلها هو ما يثبت التعلم ويجعله ذا معنى.
4. تطوير الوعي باستراتيجيات التفكير:
يشمل تخطيط عمليات التدريس الرائدة تطوير الوعي الميتا-معرفي لدى التلاميذ تجاه استراتيجيات التفكير التي يطبقونها، بما في ذلك:
- تسمية الاستراتيجيات: إطلاق أسماء على هذه الاستراتيجيات (كالتفكير المنهجي أو الاستدلال) وفهم معناها.
- فهم مساهمتها: إدراك دور كل استراتيجية في عملية التعلم وحل المشكلات.
5. الارتباط بالقضايا المعاصرة:
التأكيد على ارتباط الموضوعات بالقضايا الآنية وذات الصلة بعالم التلاميذ ومجتمعهم. هذا يضمن أن التعلم ذو مغزى عملي ومُلهم.
6. النقل المنهجي للكفاءات والمهارات:
الهدف هو الإنشاء التدريجي لأسس تتيح نقل الكفاءات والمهارات المكتسبة في مجال الجغرافيا إلى مجالات معرفية أخرى. هذا النقل ليس عَرَضياً أو محلياً، بل هو مُدمج بصورة ملموسة ومنهجية ضمن العملية التعليمية لكل وحدة دراسية.
دمج التقنيات المتقدمة: الجغرافيا والتنوّر الرقمي
في سياق عملية التعلم المعلوماتية، تُصبح لتعليم الجغرافيا أهمية قصوى في التعرف على مصادر المعلومات المعتمدة على التطبيقات التكنولوجية الرقمية المتقدمة. هذا يعكس الممارسات المهنية لخبراء الجغرافيا الذين يستخدمون أدوات حديثة في عملهم التخطيطي والتطويري.
دور التكنولوجيا في الممارسة الجغرافية:
تتيح التطويرات التكنولوجية المتقدمة (مثل الصور الملتقطة بالأقمار الصناعية، والمنظومات المعلوماتية الجغرافية (GIS)، وغيرها):
- الحصول على أحدث المعلومات أولاً بأول (on line): وبصورة منهجية ومتتالية.
- متابعة الظواهر: تتيح متابعة حدوث الظواهر والعمليات في الحيز الطبيعي والبشري.
- المعالجة والتحليل: توثيق الظواهر، جمع المعطيات، تخزينها، ومعالجتها وعرضها بطرق مختلفة.
- التكهن: القدرة على التكهّن بأحداث واتجاهات في مجالات مختلفة ذات مفهوم حيّزي (مكاني).
شبكة الإنترنت: مصدر حيوي للجغرافيا الديناميكية
تضيف شبكة الإنترنت إسهاماً مميزاً لكون الجغرافيا مجالاً يتميز بـ ديناميكيته الكبيرة وتغيره المستمر. تتيح الإنترنت مصادر معلومات متنوعة وحديثة ومتاحة على مدار الساعة، بما في ذلك:
- الخرائط والصور (بما في ذلك صور الرصد والعوارض الفورية).
- المعطيات الإحصائية.
- منظومة المعلومات الجغرافية التفاعلية.
- نتائج الأبحاث ومسح الأحداث والظواهر بصورة فورية.
إن استخدام هذه المصادر الحديثة والحصرية يُعزز التزام المنهج بتنمية التنوّر المعلوماتي وربط المتعلم بالممارسة الواقعية للمهتمين والمختصين في مجال الجغرافيا.