المرتكزات الإستراتيجية للدعوة الإباضية في عهد الإمام جابر بن زيد:
وضع الإمام جابر بن زيد الأزدي (ت. 93 هـ/ 712 م)، المؤسس الفعلي لمذهب الإباضية، أسساً تنظيمية ومنهجية بالغة الأهمية. هذه الأسس لم تكن مجرد مبادئ دينية، بل كانت خطة عمل استراتيجية لتمكين الدعوة ونشرها في ظل ظروف سياسية واجتماعية معقدة، خاصة في الفترة الأموية التي تميزت بالصراع والملاحقة.
يمكن تلخيص أهم هذه المرتكزات، مع التوسع في تفاصيلها، فيما يلي:
1. الاندماج الاجتماعي وبث المبادئ باستخدام التقية:
ركز الإمام جابر بن زيد على ضرورة عدم عزل أتباع الدعوة عن المجتمع الأكبر، بل شجعهم على الاندماج الكامل والمشاركة الفعالة في الحياة العامة، مع تبني منهج حذر لنشر الأفكار.
- الهدف: بناء قاعدة شعبية صلبة ومستقرة للدعوة من خلال الاختلاط بالناس والتأثير فيهم تدريجياً، بعيداً عن الصدام المباشر أو التجمعات المنعزلة التي قد تستفز السلطة.
- التقية الدينية: اعتمد هذا المنهج على استخدام التقية الدينية (أو "كتمان" الدعوة في مراحلها الأولى). والتقية هنا لا تعني التخلي عن المبادئ، بل تعني:
- الكتمان: إخفاء الانتماء السياسي أو التنظيمي للدعوة عن العوام وعن عيون السلطة.
- الحوار الهادئ: نشر الأفكار الإباضية المتعلقة بالعدل، وموقفهم من مرتكب الكبيرة، ونقد مساوئ الحكم، بطريقة هادئة وتدريجية ضمن حلقات التعليم والنقاش العام، دون الإعلان الصريح عن الانشقاق السياسي.
- النجاة من الاضطهاد: حماية الأفراد والتنظيم من الملاحقة والاضطهاد الذي كان شائعاً في تلك الفترة ضد أي جماعة ذات ميول معارضة.
2. مهادنة السلطة وكسب العلاقات الودية:
على عكس العديد من الحركات المعارضة التي اختارت الصدام المباشر أو الثورة المسلحة، تبنى الإمام جابر بن زيد منهجاً عملياً يقوم على التعايش السلمي الحذر مع سلطة الخلافة القائمة (الأموية).
- السياسة الواقعية: كانت هذه الخطوة بمثابة سياسة واقعية لإتاحة الوقت والمساحة اللازمة لنمو التنظيم الدعوي دون التعرض للإبادة.
- بناء العلاقات: سعى الإباضية الأوائل إلى كسب علاقات ودية أو على الأقل محايدة مع بعض رموز السلطة، خاصةً أولئك الذين لم يكونوا متشددين في ملاحقة الحركات الدينية.
- تجنب الصدام: كان الهدف هو تأجيل مرحلة المواجهة المسلحة إلى حين اكتمال القوة التنظيمية والانتشار الجغرافي، مما سمح للدعوة بالبقاء والازدهار في الخفاء لعقود.
3. إقناع قبيلة الأزد للدخول في الدعوة (الارتكاز القبلي):
مثل أي حركة اجتماعية في تلك الحقبة، كان من الضروري الاعتماد على قوة قبلية منظمة، وكانت قبيلة الأزد هي الهدف الاستراتيجي للإمام جابر بن زيد نفسه، كونه ينتمي إليها.
- العمق القبلي: شكلت قبيلة الأزد، وهي من أكبر القبائل العربية وأكثرها انتشاراً وتأثيراً في البصرة وعُمان والمشرق، العمق الاجتماعي والغطاء الأمني للدعوة.
- الموقع الجغرافي والسياسي: كانت البصرة مركزاً حيوياً للقبائل، وإقناع الأزد فيها وفي عُمان (التي أصبحت لاحقاً المركز السياسي للإباضية) ضمن للدعوة عنصري القوة البشرية والانتشار الجغرافي الاستراتيجي.
- بناء المؤسسة: ساهم هذا الارتكاز القبلي في تجميع الموارد والرجال اللازمين لتكوين "مجلس شورى" أو "تنظيم سري" للدعوة، والذي أدار شؤونها ونشرها في الأمصار.
4. نشر الدعوة في أمصار عدة وأجناس مختلفة (الانتشار الأفقي):
لم يقصر الإمام جابر بن زيد الدعوة على مركز واحد أو جنس واحد (كالعرب فقط)، بل وضع استراتيجية لنشر الدعوة أفقياً وفتح قنوات اتصال في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية.
المراكز الحيوية: تم التركيز على أهم المراكز الحضرية والعسكرية والتجارية في الدولة الأموية، مثل:
- البصرة: كانت المركز العلمي والقيادي الأول للإمام جابر بن زيد.
- الكوفة والمدينة ومكة: لنشر الأفكار بين العلماء والفقهاء.
- عُمان واليمن: لتأسيس قاعدة قوية بعيدة عن مركز السلطة.
- شمال أفريقيا (المغرب): حيث أرسل إليها الدعاة الأوائل (مثل أبي الخطاب المعافري) والتي أصبحت لاحقاً مركزاً حيوياً لدولة إباضية مستقلة.
- شمولية الدعوة: لم تقتصر الدعوة على العرب، بل شملت الموالي والأجناس المختلفة، مما أعطاها طابعاً أكثر شمولية وقاعدة جماهيرية أوسع بكثير من الحركات التي اقتصرت على الانتماءات القبلية أو الإقليمية الضيقة.
باختصار، استندت إستراتيجية الإمام جابر بن زيد على مزيج من الحكمة السياسية (المهادنة)، الحماية التنظيمية (التقية)، القوة الاجتماعية (الأزد)، والانتشار الواسع (الأمصار)، مما مكن الدعوة الإباضية من البقاء والتطور لتصبح مذهباً إسلامياً راسخاً.