حركة الإصلاح الديني ونشأة الفكر الفلسفي الحديث: ثورة لوثر وكالفن على سلطة الكنيسة
تُعد حركة الإصلاح الديني، التي قادها كل من مارتن لوثر (1483-1546) وجون كالفن في القرن السادس عشر، من العوامل المحورية والمؤسسة لـ نشأة الفكر الفلسفي الحديث. لم تقتصر هذه الحركة على تجديد الدين المسيحي فحسب، بل أحدثت زلزالاً اجتماعياً وثقافياً أطلق العنان للفردية والعقلانية، وهما السمتان الأبرز للفلسفة التي تلت عصر النهضة.
أولاً: الهدف الجوهري للإصلاح الديني
كان الدافع الأساسي لحركة الإصلاح هو تجديد الدين المسيحي وتطهيره مما اعتبروه شوائب وغيوم فرضتها المؤسسة الكنسية على مر العصور.
- التحرر من سلطة الكنيسة: هدفت الحركة إلى التخلص من السيطرة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين (الكهنوت) الذين احتكروا تفسير العقيدة ووساطة الخلاص بين الإنسان والله.
- العودة إلى المنابع الصافية: أكد لوثر وكالفن على ضرورة العودة إلى جوهر المسيحية الصافي كما ورد في الكتاب المقدس (الكتاب المقدس وحده - Sola Scriptura) دون الحاجة إلى عقائد نظرية جامدة أو تأويلات لاهوتية تفرضها المؤسسة الدينية. هذا التأكيد على النص الأصلي كان بمثابة دعوة مباشرة لتجاوز الوسيط البشري (الكنيسة) والاعتماد على المصدر الأول.
ثانياً: إرساء قواعد الفردية واستقلال الضمير
أثمرت حركة الإصلاح عن ظهور مذاهب جديدة كـ البروتستانتية والبيوريتانية (التطهيرية)، والتي ركزت على تحويل مركز الثقل الروحي من المؤسسة إلى الفرد.
1. تأكيد قيم الزهد والعمل:
ركزت هذه الحركات على الجوانب الأخلاقية والعملية لرسالة المسيحية، مؤكدة على قيم:
- الزهد (التقشف): الابتعاد عن مظاهر البذخ والترف الدنيوي.
- العمل الدؤوب: اعتبار العمل ليس مجرد وسيلة للعيش، بل عبادة وقيمة أخلاقية تساهم في تحقيق المجد الإلهي، وهو ما عرف لاحقاً بـ "أخلاق العمل البروتستانتية" التي ساهمت في نشأة الرأسمالية.
2. استقلالية الإنسان ومسؤولية الضمير:
كان التأثير الأعمق على الفكر الفلسفي هو التأكيد على:
- استقلال الإنسان: أصبح الفرد مسؤولاً بشكل مباشر أمام الله، بحيث يكون مُوَجّهه الأول هو الكتاب المقدس نفسه (النص المتاح للجميع).
- الضمير الإنساني اليقظ: فُتح الباب أمام الحرية الفردية في الفهم والتأويل، مما جعل الضمير الشخصي هو المحكمة العليا في الأمور الدينية والأخلاقية، بدلاً من حكم الكنيسة. هذا الاستقلال الفكري يمثل بذرة النزعة الإنسانية الفردية التي تبلورت في الفلسفة الحديثة.
ثالثاً: ترجمة الكتاب المقدس وتعميم المعرفة
لتحقيق هدف إزالة وساطة الكنيسة، كان لا بد من نزع صفة الاحتكار عن نص الكتاب المقدس، فكانت ترجمة الكتاب المقدس هي الخطوة الثورية الكبرى.
- كسر الاحتكار اللاتيني: كان الكتاب المقدس مكتوباً باللغة اللاتينية، التي كانت حكراً على رجال الدين وعلماء الكنيسة والمثقفين، مما منحهم سلطة احتكار المعرفة والتفسير.
- الترجمة إلى اللغات القومية: عمل مارتن لوثر على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية، وهي أول لغة أوروبية حديثة يُترجم إليها النص المقدس. توالت بعد ذلك الترجمات إلى كل اللغات الأوروبية.
- النتائج الفكرية:
- تداول النص: وُضع الكتاب المقدس أمام الجمهور الأوروبي في كل قومياته.
- إتاحة للنظر والفهم: أتاح هذا التوزيع فرصة النظر والفهم المختلف والتفسيرات المتعددة للنص الواحد. لقد أثبتت حركة الإصلاح بذلك ثقتها في قدرة العقل الإنساني والضمير الحي على الفهم المباشر وتبني الرسالة والعمل بها، وهو ما يعد دَفعة قوية باتجاه العقلانية الفردية.
رابعاً: نضوج النزعة الإنسانية والاستقلال الفكري
لقد عمل التأكيد على أهمية الفرد وضميره ومسؤوليته الشخصية على نضوج النزعة الإنسانية الفردية، التي كانت تتشكل في عصر النهضة.
خامساً: تساؤل حول إيطاليا وارتباطها بالشرق
قد يتساءل البعض عن السر في ظهور بوادر الفكر الحديث وقضاياه الفلسفية أولاً في إيطاليا قبل أن تزدهر في مناطق الإصلاح البروتستانتي.
- جسر التواصل مع الشرق: الإجابة تكمن في أن إيطاليا في عصر النهضة كانت الإقليم الأقرب والأكثر اتصالاً بـ الشرق العربي والإسلامي.
- مركز النقل المعرفي: في إيطاليا تحديداً تم انتقال التراثين اليوناني والعربي الإسلامي إلى أوروبا. ففيها تمت ترجمة الأعمال الأدبية الكلاسيكية وكذلك الأعمال الفلسفية العربية إلى اللغة اللاتينية، مما زود المفكرين الإيطاليين بمنبع معرفي غني ومهد الطريق أمام المشكلات والقضايا الفلسفية التي شغلت فلاسفة العصر الحديث.
