المعاناة في الشعر الجاهلي.. طبيعة البيئة الجاهلية المتحركة فرضت على الإنسان الجاهلي النسق الشعري الخاص، محمولاً في شحنة وجدانية تغلي وتتصبب قطعاً



المعاناة في الشعر الجاهلي:

الإنسان الجاهليّ سائر، أو قُل: هو يدور في مزالق الصحراء، لا يكاد يستقر. وقراءة واعية للآثار الشّعرية الجاهلية تطلعنا على أنّ الرؤية الشّعرية للجاهليين، بما فيها من حركة ونمو هي ترجمة هذا الإنسان إلى شعر.
والشعر لدى الجاهليّ هو الإنسان نفسه. وإذا وجد في هذا العصر من يصف الحضارة الجاهلية بأنها حضارة لغة، فإنه يحق لنا أن نفخر بهذه الخاصة... وحركة الإنسان الدائبة في الصحراء عكستها لغته بشكل تصورها حركات الإعراب نفسها.

قواعد مميزة للكلام العربي:

ولا يبدأ كلام العربيّ بساكن، ولا يلتقي في اللغة ساكنان، ومعظم القصائد الجاهلية - التي وصلتنا - تبدأ بفعل: "قفا نبك" و "ودّع هريرة"، و "سائل معدّاً" و "بانت سعاد"...
معظم القصائد الجاهلية تبدأ هذه البدايات، التي تنمّ عن الحركة، والمسير، والرّغبة في الاستمرار.
وما تبقى من القصائد - وهي قليلة - لا تبدأ بفعل، وإنما تبدأ بأحرف استفهام: من؟ لمن؟ أين؟ هل؟ أو تنبيه: ألا، آ. أو نداء...

خصائص التجربة الشّعرية الجاهلية:

ونتساءل بعد هذا الكشف عن أحد جوانب التجربة الشّعرية الجاهلية:
هل جاءت الحركة إلى مطلع القصيدة مصادفة دون اختيار من الشّاعر الجاهليّ؟
وهل كانت حوّاء التي احتلت مدخل التجربة الشّعرية حلية أو زخرفاً في القصيدة؟
وهل أقحم الشّاعر الجاهليّ الدّمن والأطلال في قصيدته بلا معنى؟

ثالوث الحركة، والمرأة، والطّل:

إن الحركة، والمرأة، والطّل كثالوث مقدّس في الشّعر الجاهليّ، يعكس لنا بشكل خفي طبيعة المعاناة وتشخيص الصدق في العمل الإنساني الخالد.
إن هذا الثالوث ترجمة للفعل والحب والتعلق بالأرض، كوجه خلفي لشكل الإنسان العربي الذي كشف ذاته في لغته، ومنحها ما يريد أن تمنحه إيّاه الطبيعة من طول وعمق وحركة واستمرار، مما يدعونا إلى التأكيد على أن الشّعر الجاهليّ كان معاناة من إنسان ذلك العصر لرسم إنسانيته فيه.

ديوان الجاهليين:

وعندما نصف هذا القدْر الذي وصل إلينا من ذلك العصر بأنه ديوانهم، ومرآة وجودهم، وحامل حركتهم، والمعبّر عن وجودهم في هذه البقعة من العالم، علينا أن نضيف لكل ذلك أن الشّعر الجاهليّ بما حمل من فخر ذاتي، وقوة انتماء قبلي، ووصف حيّ للطبيعة والحياة، ورسم دقيق لم ينْسَ خطاً واحداً من خطوط الحياة العربية في فترة ما من التاريخ.
كان هو الإنسان الجاهليّ نفسه بمعاناته وتركيبه النفسي والفكري، ونزعة تطلّعه، أو ملكة تشبّثه في الحياة، ومواجهة همومها، أو بتعبير وجودي كان يختار مصيره وينقله بالشعر، وإذا كانت كل "حقيقة لا تكون إلاّ بفعل عاملين: عامل البيئة، وعامل الذّاتية الإنسانية" كما قال سارتر، فالشعر الجاهليّ هو الأثر الذي حمل في طياته هذه المعادلة بكل صدق.

تجربة الإنسان الجاهلي:

فنجد في لغته الجزلة المنسوجة على نوْل الجمال العبقري الباذخ روح ذلك الإنسان وموقفه من الحياة والآخرين، متغلغلاً في البيئة، ومتغلغلة في البيئة، كأكمل ما يكون التّداخل والالتحام، حتى كان القارئ في كثير جداً من هذه القصائد لا يستطيع أن يسأل عن مفردة لا لزوم لها في الشّعر.
أي، إنه شعر ليس فيه حَشو، تلك الخاصة التي انزلقت إلى الشّعر - فيما بعد  - وشوّهت الكثير من معالمه.

التجربة الشّعرية الجاهلية:

كانت التجربة الشّعرية الجاهلية - كما نفهمها - تجربة، خاضها الإنسان الجاهليّ مختاراً شكلها، وأرضها، وخلفيتها، وعمقها.
فمن حيث اللغة كان الشّاعر حراً في اختيار ألفاظه بما يتلاءم مع مستواه الفكري، ومظاهر حياته، وخصائص بيئته.
ومن حيث الموسيقا فقد ظلّت الفترة الزمنية التي وصل إلينا جزءٌ من نتاجها الشّعري فترة مخاضات إيقاعية، وولادات موسيقية، لم تحصرها القوانين.
وأبرز من هذا كله أنّ البيئة الجاهلية بكلّ ما فيها، وذاتية الإنسان الجاهليّ بكل ما فيها، كانتا ميدان الشّعر الفسيح، ومسرح تجارب الشّاعر الخلاّقة.
البكاء على الأطلال كان واقعاً ملموساً، ولم يكن زخرفاً جمالياً في الشّعر.
والمطلع الغزلي كان الشحنة الأولى التي تتفجر من ورائها مخزونات النفس الشاعرة.
والرحيل على الناقة والجمل، والصيد والرعي، ونصب الخيام، وصليل السيوف، وكرع الخمر، والانتماء القبلي، والإشادة بعظمة القبيلة... كانت هذه المظاهر - التي عرفناها - ميْداناً للشعر.
كانت جزءاً أو أجزاءً من صميم تكوين الإنسان الجاهليّ.
وقراءة المعلّقات بوصفها عنصراً بارزاً من عناصر هذا الشّعر مع الاطلاع على حياة أصحابها، تقدم لنا الدليل على أن الشّاعر الجاهليّ لم يكن زائفاً في انتقاء مسرحه الشّعري بقدر ما كان ممارساً لهذا الانتقاء.

الوحدة والوصف في الشّعر الجاهليّ:

وقد يسأل سائل، ونحن نتعمق جذور الكمال في الشّعر الجاهليّ، سؤالين:
1- أين وَحدة العمل في القصيدة الجاهلية؟
2- لماذا طغى عنصر الوصف على هذا الشّعر حتى كاد يستهلكه؟
ولا أظن أن السؤالين خطرا للشاعر الجاهليّ نفسه. أي أننا نسألهما من خلال إحساسنا بقيمة الشّعر وتنوعه واتساع حدوده وآفاقه، ونحن في القرن العشرين، بزمان غير الزمان، ومكان إن لم يكن قد تغيّر، فلا شكّ أنه قد طرأ عليه الكثير من التعديل والتبديل.
وبالتالي هل من المنطق أن نسأل الشّاعر الجاهليّ أن يكون ترجماناً أميناً لذاتية الإنسان في القرن العشرين؟
بل المنطق أن نعيش قدرة ذلك الإنسان وتكوينه العقلي، ثم نعكف على دراسة منجزاته، فإن تفوق الإنجاز على إمكانية متاحة للمنجز، نقول على الفور: إنّه تجاوز عصره. وإن تفوقت إمكاناته المتاحة على حجم إنجازه ونوعه اتّهمنا بالجمود.
وهذا ما لا يوافق مفكر أو مثقف على إلصاقه بالإنسان الشّاعر في ذلك العصر.

التقييم الموضوعي للشعر الجاهلي:

قلت في سطور سابقة: إن الحركة الناتجة عن سرعة التنقل هي التي طبعت الجاهليين بطابعها، وانعكستْ هذه الحركة على لغته وشعره فكلامه يبدأ بمتحرك كأنما اللغة تتململ لتنطلق في رحاب العالم غير المنظور تكتشفه.
وشعره في الغالب يبدأ بالفعل الذي يعبّر عن تلك الحركة، وأسبغ هذه الخاصّةَ نفسها على كل ظاهرة تبرز له في ثنايا رحلته الحياتية... أسبغ على كثير من الأسماء صفات تحوّل هذه الأشياء إلى أساطير... إلى شحنات تتفجّر طاقات الشّعر منها جميعاً...
وهل من العدل، ونحن نقرأ التاريخ والأدب والفلسفة وعلم النفس، أن نقيّم الشّعر الجاهليّ بنفسية إنساننا المعاصر؟
وهل من المنطق أن نطالب شاعرنا الجاهليّ بأن يكتب قصيدة وحدة البناء، الذي - أصبحنا الآن نفهمه - إذا ما تهدّم بيت منها تنهار؟

مرونة القصيدة الجاهلية:

في واقع الأمر إنّ القصيدة الجاهلية لم تعتمد البناء الكلي المتسق بحيث لا تخلخلها الزيادة ولا النقصان.
ولكن طبيعة البيئة الجاهلية المتحركة - والتي كانت التجربة الشّعرية نقلاً مثالياً لها - فرضت على الإنسان الجاهليّ النّسق الشّعري الخاص، محمولاً في شحنة وجدانية تغلي وتتصبّب قطعاً كأنها جِمال القافلة، أو خراف القطيع، ولم تكن القافية الرنّانة إلاّ الخيط الذي يربط البيت والبيت.
وكان من اختيارات الجاهليّ لفنّه - وربّما عن تصميم - أن تكون كل شحنة شعرية مستقلة ببنائها المحكم المتقن، بحيث إذا ضاع من القافلة جمل فلا تضيع القافلة، وإذا ضاع من القطيع حَمَل فلا يضيع القطيع.

النهاية في العمل الشّعري الجاهليّ:

وقراءة متأنية للقصائد الجياد الجاهليات ترينا أن الأبيات لو زادت أو نقصت تظلّ بين أيدينا روح الشّاعر، وجوّ القصيدة، وقسط وفير من الخصائص الفنية التي عانى شاعرنا الجاهليّ وجاهد في سبيل خلقها.
أُضيف إلى هذا التحليل أمراً، ربما لم يتنبه له كثيرون، هو فقدان النهاية في العمل الشّعري الجاهليّ.
وحيث ينتهي الشّاعر الجاهليّ من إنشاد قصيدته ، يدفعنا لنتساءل: وبعد؟ القصيدة ذات مطلع بالتأكيد، حتّم عليه الشّاعر أن يكون مدخلاً إلى محراب شعره.

حياة متحركة:

ولكن الباب الثاني لهذا المحراب المقدس يظلّ مفتوحاً على مصراعيه، حتى لتحسّ بأن الشّاعر الجاهليّ عائد إليك، يستأنف رحيله الشّعري مرة أخرى.
فهل نضيف هذه الخصيصة إلى طبيعة الحركة؟ طبيعة الرحيل؟ طبيعة السير الذي أراده لنفسه؟
ثم لماذا طغى الوصف على تجربة الشّعر الجاهليّ ؟ أليس هذا هو السؤال الثاني الذي طرحناه؟
أجل. قلت: إنّ الإنسان الجاهليّ يسير، وكل ما بين يديه من مقوّمات حياته سائر، فالحبيبة تنزلق من أمام ناظريه، ولا يراها إلاّ محمولة في هودج على ناقة في قافلة تبحث عن الكلأ... والبيوت التي تقيه حرارة الشمس ووهجها هي الأخرى تسير... تترحل... تنتقل مع القبيلة، أو مع فخذ من أفخاذها... الخرفان تركض... والظباء التي افتتن بها وسرق منها العين الساحرة هي الأخرى لا تقف أمام عينيه في مكان ما... فحياته إذن رحلة... مسير لا وقفة بعده... ترحّل مستمر...
أما كان ذلك الإنسان يحنّ لاستجماع أشياء لا تستقر بها أرض، ولا ينعم بها نظر طويلاً؟ في ذاكرته على الأقلّ... وفي وجدانه المرهف... وفي فؤاده الذكي... الشّاعر الجاهليّ رسّام... لم تسعفه العين المجردة على رسم صوره فاستعان بعين خياله، لينفذ منها شعاع سحري أنيق، ويحيل حياته إلى لوحة بارعة لها مطلع وليس لها نهاية، ذات ألوان ليس قوس قزح أحلى منها.

شعر المعاناة:

الإنسان الجاهليّ شاعر عانى الحياة، التي كانت رحلة بلا توقف... هو على صهوة جواده الذي أحبه، وكان له صديقاً وفياً، فأقسم أن يخلّده فمنحه الكثير. وأمامه ناقته الذلول وبعيره السفينة يتهدَّجان على شوك البادية، أو رمال الصحراء.
ألّيْسا صديقيه في رحلته؟
ويمرّ أمام ناظريه ظبْي فقد أقرانه، اللّهفة ملء قفزاته، والحنان ملء نظراته، أليس جديراً بهذا الشّاعر أن يلتقط له صوراً عديدة في طريقه، يعيد النّظر فيها، ويمنحها بالشعر حياة أخرى؟
كان الشّاعر الجاهليّ في رحلته سابحاً فوق المحسوسات والموصوفات، يحطّ حيناً، ويحلّق حيناً آخر.
يخطف مشهداً حيناً، ويقف وقفاتٍ قصاراً ليتفحّص المشهد الذي ينقله حيناً آخر.
ويلحّ بين الحين والحين على التعمّق في خطوط المشهد وجزئيّاته، حتى إذا نقله وفردهُ بَيْنَ يدي حبيبته الملهمة، لا يترك لها مجالاً لسؤال عن جزئية من أجزائه.

الفرق الزماني والمكاني:

كانت الصورة في قصيدته صورتين: صورة المشبّه، وصورة المشبّه به.
وكثيراً ما كان يمحو الفرق الزماني والمكاني بين المشبه والمشبه به ليحتلّ الاثنان حيّزين متكافئين في قصيدته، مضيفاً عليهما لمساتٍ من روحه الشفّافة وخياله.
وقليلاً ما كان يلجأ إلى تصوير غير المرئيّ، لكأنّ ذاكرته في رحلته كانت وعاءً حُشرتْ فيه أشتات من الصور.
ولم يَبْقَ فيها مكان إلاّ لما يوحيه قلب العاشق، وتصوّر الفارس لبأسه وشجاعته وكرمه وعفّته وحفاظاً على مثله العليا بالنسبة إلى مجتمعه القبلي.
وكثيراً ما كانت صور الشّاعر الجاهليّ ملتصقة بذكرياته الماضية قريبها وبعيدها، وأثناء التّصوير يعنّ له أن يسْردَ قصّة من قصصه الماضية، كرحلة صيد، أو مغامرة مع الإنسان المعبود حوّاءَ.
فالوصف إذن من طبيعة التركيب الأصيل للتجربة الشّعرية في الصحراء.

وبعد:

فإنّ المعاناةَ والجهدَ المبذولَ في إخراج تلك الروائع الفنية يدفعانني إلى أن أقف مشدوهاً مبهوتاً أمام قول الجاحظ: "وكل شيء للعرب بديهة وارتجال، وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر"، بما في ذلك الشّعر، ولم يكلف الجاحظ نفسه عناء البحث والتمحيص في أعماق العصر الجاهليّ فعدّ الشّعر حديث الميلاد صغير السنّ، أول من نهج سبيله، وسهّل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر الكندي، ومهلهل بن ربيعة.
إنّ هذه الأقوال التي ارتجلها الجاحظ لا تستقيم مع طبيعة الشّعر، بوصفه فناً صعباً، ولا تستقيم مع طبيعة الفنّ من حيث نشأتُهُ وطفولتُهُ والمراحل التي مرّ بها حتى وصل إلى هذه الدرجة المدهشة عند مَنْ قرأنْا لهم من فحول الشعراء الجاهليين.