إذا كان الراجح فقهاً أن نجاح الثورة أو الانقلاب يؤدي غالباً إلى سقوط الدستور القائم، فإن الوضع يثير التساؤل عن مدى الأحكام والقواعد الدستورية التي يمسها هذا السقوط.
فهل يعني سقوط الدستور سقوط جميع أحكامه وقواعده؟.
أم أن هناك أحكاماً دستورية تبقى قائمة ولا يشملها السقوط؟.
ذهب غالبية الفقه الدستوري إلى أن سقوط الدستور بالثورة أو الانقلاب لا يمس من القواعد الدستورية إلا ما تعلَّق منها بنظام الحكم في الدولة، وهي القواعد التي تقوم الثورة عادةً من أجل تغييرها، حيث إن الثورة تكون موجهة إلى التنظيم السياسي للدولة (بالإضافة إلى التنظيم الاجتماعي والاقتصادي).
ويترتب على ذلك أن القواعد الدستورية التي لا تتعلق بنظام الحكم في الدولة تظل باقية رغم قيام الثورة، ومثال هذه القواعد:
1- الأحكام والقواعد المتعلقة بحقوق الأفراد وحرياتهم:
يرى معظم الفقهاء أن سقوط الدستور يجب أن لا يترتب عليه أي مساس بالمبادئ والضمانات المقرَّرة لحقوق الأفراد وحرياتهم، لأن هذه الحقوق وتلك الحريات لا تتصل بنظام الحكم في الدولة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنها أصبحت واجبة التقديس والاحترام، لأنها كما يُقال استقرت في الضمير الإنساني العالمي، بحيث غدت أسمى من النصوص الدستورية الوضعية، وتعتبر في ذاتها دستوراً فوق الدستور، فهي تمثل ما يسمى بالدستور الاجتماعي La Constitution Sociale للدولة، ومن ثمَّ فإن سقوط الدستور إثر نجاح الثورة أو الانقلاب لا يجب أن يترتب عليه أي مساس بهذه الحقوق أو تلك الحريات.
غير أن هذا القول وإن بدا قبوله أمراً منطقياً في عهدٍ كانت تمسّ فيه الحركات الثورية أنظمة الحكم السياسية فقط، إلا أنه لم يعد مقبولاً اليوم، إذ قد لا تتجه الحركات الثورية إلى أنظمة الحكم السياسية بقدر ما تتجه إلى بناء أنظمة اجتماعية واقتصادية مغايرة للأنظمة القائمة.
وتعمل هذه الحركات الثورية حينئذ على إحلال أفكار ومفاهيم جديدة لحريات الأفراد وحقوقهم محلَّ المفاهيم القديمة؛ في هذه الحالة لا مناص من القول بسقوط القواعد المقرّرة لحقوق الأفراد وحرياتهم وإحلال قواعد أخرى محلها تكون متفقة مع أهداف الثورة واتجاهاتها.
2- الأحكام والقواعد التي تعتبر دستورية شكلاً لا موضوعاً:
يرى غالبية الفقه الدستوري أنَّ إلغاء الدساتير أو سقوطها إثر نجاح الثورة أو الانقلاب يستتبع معه فقط إلغاء النصوص التي تكون لها الطبيعية الدستورية من ناحية الموضوع، أي تلك النصوص التي تتعلق بنظام الحكم في الدولة.
أما تلك الأحكام التي تعتبر دستورية شكلاً لا موضوعاً فإنها تظل باقية رغم إلغاء الدستور، إلا أنها تهبط إلى مستوى القوانين العادية، فلا يكون لها قوة القوانين الدستورية بل قوة القوانين العادية فقط وتأخذ حكمها، ويجوز بالتالي تعديلها وإلغاؤها بواسطة قوانين عادية أخرى.
ومثال ذلك ما نصت عليه المادة الخامسة من الدستور الفرنسي لعام 1848 من «إلغاء عقوبة الإعدام بالنسبة للجرائم السياسية» فقد ظل حكمها سارياً كقانون عادي بالرغم من سقوط الدستور إثر الانقلاب الذي قام به لويس نابليون سنة 1851، وكذلك أيضاً ما قد تتضمنه الدساتير من أحكام تتعلق بالتنظيم الإداري أو القضائي أو الشؤون المالية.
ومن جانبنا فإننا نرى أن سقوط الدستور إثر نجاح الثورة أو الانقلاب لا يمنع من الإبقاء على بعض النصوص الدستورية من حيث الشكل لا الموضوع، متى كانت تتفق مع قيم الثورة ومبادئها، أما بالنسبة للنصوص الواردة في وثيقة الدستور، التي تتعارض مع قيم الثورة وإيديولوجيتها، فإنها تسقط حتى لو كانت دستورية من حيث الشكل.
التسميات
قانون دستوري