التقنية خاصية إنسانية - أطروحة هايدغر.. شكل من أشكال الولوج الى الحقيقة وإلى السيطرة وليست ككيان خارجي مستقل ومهدد وغالبا ما يبطل أو يلغى



انتقد هايدغر اتكاء المجتمعات الحديثة على خطاب مضمر قوامه إعطاء مكانة مركزية العلم والتكنولوجيا. واعتبر ان ذلك الخطاب لا يستطيع حل معضلات الحضارة الانسانية، ولا يصلح كأساس للفكر الانساني، لان جوهر التقنية لا يكمن في التقنية، بل في "المحمولات المضمرة" فيها.

وذهب إلى القول إنّ جوهر ما يُسمى بالخطاب العلمي لا ينبع من العلم، ولا يستطيع ذلك، بل يعبر عن موقف ميتافيزيقي للعقل الانساني يقدم العلم بصفته وعداً بسيطرة الانسان على العالم.

حاول هايدغر أن يضبط التقنية ويباغثها في لغز ماهيتها التي ما تزال تغلفها الأسرار.
واعتبر أن هذا التمثل التقدمي التصاعدي لتاريخ العلوم هو مجرد "حكاية غير محبوكة".

فليس العلم الحديث في تقدم بالنسبة للمعرفة القديمة بقدر ما يضع محلها منظورا يختلف اختلافا جذريا بفضل "المشروع الرياضي للطبيعة" الذي نادى به ديكارت على غرار غاليليو، والذي يرى أن "الطبيعة تعمل رياضيا".

قول هايدغر في الدروب "حتى كون الإنسان غدا ذاتا وكون العالم غدا موضوعا ما هو إلا نتيجة لماهية التقنية وسيادة مملكتها وليس العكس".

ميز هايدغر بين التقنية قديما وحديثا. فالطائرة الورقية مثلها مثل الطاحونة المائية، تبقيان خاضعتين للطبيعة: إذا لم يكن ثمة هواء أو ماء، لن تعملا.

أما الصاروخ أو المحطة النووية فيعملان في كافة الأوقات، يقيمان مبدأهما خارجا عن الاحتمالات، ولا يتعلقان إلا بالحساب والقرار البشري.

إن التقنية الحديثة قادرة على استخدام الطبيعة ضد الطبيعة، والإنسان ضد الإنسان.
يقول "هايدغر": "التقنية تأمر الطبيعة، أي أنها تخضعها للعقل الذي يقتضي من كافة الأشياء أن تبين تعليلها، أن تصوبه".

إنها إذن نوع من تحدي الطبيعة، وبالتالي ليس المقصود فقط إجراء عمليات في الطبيعة باستخدام الطبيعة "فما دمنا نتمثل التقنية كأداة سنظل مشدودين بالرغبة في السيطرة عليها. إننا نبقى خارج جوهر التقنية".

إن ماهية التقنية متعلقة مباشرة بالإنسان ونزوعه إلى الفهم. فليس ما يلتمسه الإنسان في الطبيعة هو مساعدة مادية وحسب، بل مساعدة ميتافيزيقية: إننا نطلب من الطبيعة أن تسلمنا حقيقتها التي بدونها يظل وجودنا فقيرا وخاضعا."

فالتقنية هي بالتالي شيء أخر مختلف عن "العلوم الطبيعية التطبيقية ".
إنها تظهر غاية أساسية هي أن تقود إلى الحقيقة، الكائن المختبئ في الطبيعة. إنها طلب موجه إلى الطبيعة كي تسلم أسرارها وقواها العميقة.

"إن التقنية تكشف ما لا يحصل من تلقاء ذاته وليس أمامنا الأمر الذي قد يأخذ تارة هذا المظهر أو هذه الصيغة، وطورا غيرهما".

هكذا نفهم ما يميز التقنية الحديثة عن القديمة: لم تكن العلوم الدقيقة متوافرة لدى التقنية القديمة، والكشف الذي كانت تقوم به كان محدودا واتفاقيا ولم يكن يتبع منهج التجميع المتواصل الذي يميز ما نسميه التقدم التقني.

لكن التماس الطبيعة الذي تقوم به التقنية الحديثة منظم وملح."إن التطور الذي يسود التقنية الحديثة هو تحريض يخطر الطبيعة لتسلم طاقة يمكن استخراجها وتجميعها".

هذا الطلب الموجه بإلحاح إلى الطبيعة لم يعد يتعلق بحاجة معينة، إنه يزج الأرض بأكملها والبشرية بأكملها في مسار كشف وترشيد ومردود يكون شبكة متضامنة.

فالتقنية تبدو لـ"هايدغر" كشكل من أشكال الولوج الى الحقيقة وإلى السيطرة وليست ككيان خارجي، مستقل ومهدد وغالبا ما يبطل أو يلغى. التقنية التي تدرك جيدا تجرنا "في ندائها المحرر".