العلم والتقنية.. مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة



ترتكز حياة الإنسان المعاصر على الآلات والمعدات التقنية ، تلك «الكائنات المألوفة الصامتة والخفية»، التي بفرط اعتماد الإنسان عليها واستخدامه لها باستمرار أصبحت تشكل جزءا من وجوده حتى أن التفكير في الظاهرة التقنية ودلالاتها وأبعادها ومختلف آثارها قد تعطل وغاب خلف مظاهرها المتمثلة في جيش من الآلات والمعدات التقنية المحيطة بنا.

فإذا كان «الإنسان كائنا صانعا»، فهل صنع الأدوات والآلات التقنية من خصائصه أم انه عبارة عن تحول جوهري في وجوده؟.

ثم ألا يمكن القول بأن وثيرة حركة الإنتاج التقني واستهلاكه قد خرجت من طوع الإنسان بل وأصبحت هي التي تتحكم فيه؟

ألا يمكن أن يكون لهذا الانقلاب في علاقة الإنسان بالتقنية تأثير وانعكاس على مختلف علاقاته: بنفسه وبالآخرين وبالطبيعة؟
وقبل هذا وذاك ما هي التقنية ذاتها؟

يعرف معجم لالاند التقنية بأنها «مجموعة من العمليات والإجراءات المحددة تحديدا دقيقا، والقابلة للنقل والتحويل والرامية إلى تحقيق بعض النتائج التي تعتبر نافعة» التقنية هي: أولا، عمليات وإجراءات محددة بدقة وهادفة إلى تحقيق غرض معين وجدت من أجله، وهي ثانيا، قابلة للتعليم والتعلم والتطوير والتداول والانتشار داخل وسط ما ومن هنا طابعها الاجتماعي.

وهي أخيرا، تحقيق لأهداف عملية نفعية معينة، بمعنى أن التقنية ليست ترفا بل هي سد لحاجة أو نقص ما لدى الإنسان ، ومن هنا نفهم القول المأثور «الحاجة أم الاختراع».

فإذا كان الإنسان قد حول الطبيعة بالتقنية إلى تقنية أي حول الطبيعة إلى منتوجات وآلات تقنية استعان بها على تحويل الطبيعة لإنتاج ما لا تستطيع أن توفره من ذاتها فإنه قد تحول هو نفسه إلى كائن ثقافي يعيش وسط الآلات وبها ومعها ولربما قد يعيش لها...

وفي إطار تحديد التقنية لا نرى بدا من التمييز بين الأداة Instrument والآلةAppareil: فالأداة منتوج المجتمعات الحرفية، وهي عبارة عن امتداد لجسم الإنسان (كالفأس والمطرقة والمنجل...) إذ أنها تتيح ليد الإنسان استعمالات وإمكانيات عدة، ولكن تشغيل الأداة يبقى موقوفا على طاقة جسم الإنسان.

أما الآلة فهي منتوج المجتمعات الصناعية، وهي حتى وإن كانت امتدادا لجسم الإنسان-إذ أنها تسد النقص والعجز الذي يعاني منه- فإنها تتمتع بنشاط شبه مستقل عن الجسم إذ لها حركة ذاتية ناتجة عن تحويلها للطاقة كقوة طبيعية (كالآلات البخارية مثلا).

وقد أبرز معظم الفلاسفة والأنتربولوجيين أن البعد التقني سابق أو على الأقل ملازم للبعد المعرفي في الإنسان، وأن الإنسان نفسه كائن صانع قبل أن يكون كائنا عارفا، بمعنى أن المهارات العملية للإنسان سابقة بل متفوقة على مهاراته النظرية أو المعرفية.

وإذا كانت التقنية قد تطورت عبر تاريخ الإنسانية تطورا بطيئا عبر عشرات القرون: الحجر، الحديد، البروز، فإنها أخذت تتحول نوعيا من التقنية اليدوية إلى التقنية الممكنة مع ظهور العلم الحديث ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا حيث تلاحقت الثورات التقنية تباعا: الثورة البخارية، المحرك الانفجاري، اكتشاف الكهرباء ونتائجه، الثورة الإلكترونية، المعلوميات، الثورة الجينية وهي تحولات تحكمها معايير التسارع والميل إلى الاستقلال الذاتي والكونية والتطور العلمي بعيدا عن أي منظور غائي، وذلك في إطار تصور جديد للعلم ذاته الذي لم يعد كما كان في العصور القديمة معرفة نظرية شاملة متقابلة مع التقنيات كصناعات وممارسات علمية، بل في منظور أن العلم أصبح مرتبطا عضويا بالتقنية.

إلا أن التطور الهائل للتقنية الحديثة وكشوفاتها وقدراتها التي جعلت الإنسان يحقق ما كان يحلم به عبر السحر والميتولوجيا في القديم سواء في استكشاف الأبعاد اللانهائية للكون الكبير وفي الأبعاد اللانهائية للأكوان الصغرى في المادة الجامدة والمادة الحية أو في السعي إلى التحكم في بعض مظاهر الحياة عبر التلقيح الاصطناعي أو الاستنساخ وغيره كل ذلك بدأ يطرح تساؤلات للمقارنة بين إيجابيات التقنية وحدود سلبياتها، وحول كيفية ضبط تطورها قانونيا وأخلاقيا حتى لا تتجاوز حدود المعقول الأخلاقي.