الشراكة على اختلاف مصادرها: أحكام شركة العقد القائمة على المال (العنان والمفاوضة)، والشركات المبنية على الجهد (الأبدان)، والوجاهة (الوجوه)

شركة العقد في الفقه الإسلامي: المفهوم، الأركان، والأنواع التفصيلية

تُعد شركة العقد هي الأساس القانوني والشرعي لمعظم الكيانات التجارية والاستثمارية في النظام الاقتصادي الإسلامي. وهي تمثل التزاماً تعاقدياً بين طرفين أو أكثر يهدف إلى تحقيق مصالح مشتركة من خلال استغلال المال والجهد أو الوجاهة.


1. التعريف والجوهر:

شركة العقد هي عقد رضائي يقوم بين الشركاء يتفقون بموجبه على خلط أموالهم أو أعمالهم أو ذممهم؛ بهدف الاستثمار والتجارة، مع الاتفاق على اقتسام ما ينشأ عن هذا الاستثمار من أرباح وخسائر بنسب معلومة.

جوهر هذه الشركة يقوم على مبدأ الوكالة والكفالة (الضمان)؛ فكل شريك يعد وكيلاً عن شريكه في التصرفات التجارية، وكفيلاً عنه في التزامات الشركة. ويكمن أهميتها في أنها آلية شرعية لتنمية رؤوس الأموال وتحقيق التكافل الاقتصادي بين الأفراد.


2. أنواع شركة العقد بالتفصيل:

تنقسم شركة العقد إلى أنواع رئيسية متعددة، يُصنفها الفقهاء بناءً على طبيعة ما يساهم به الشركاء (مال، عمل، ذمة). كما تنقسم شركة الأموال تحديداً إلى عنان ومفاوضة بناءً على درجة التفويض.


أولاً: شركة الأموال (العنان والمفاوضة)

تقوم هذه الشركة على الاشتراك في رأس المال بهدف المتاجرة. وهي تنقسم إلى نوعين حسب درجة الشمول والإطلاق في التفويض:

أ. شركة العنان (الشركة المقيّدة):

شركة العنان هي النموذج الأكثر شيوعاً في شركات الأموال. سميت بالعنان، وقيل لأن كل شريك يعنّ (يظهر) ليتصرف في مال الشركة بمقدار حصته وبما أُذن له فيه.

التفصيل والخصائص:

  • التقييد والتخصيص: هي شركة مقيّدة؛ بمعنى أن الشركاء يتفقون على عدم تصرف أي شريك في مال الشركة إلا بحدود معينة أو في تجارة محددة، أو يتطلب التصرف إذناً خاصاً من الشريك الآخر.
  • رأس المال: يجوز أن يكون رأس المال متساوياً أو متفاوتاً بين الشركاء.
  • الربح والخسارة: يتم توزيع الربح وفق ما يتفق عليه الشركاء، أما الخسارة فتكون حتماً على قدر رأس مال كل شريك.
  • الأهمية المعاصرة: تعتبر الأنسب للصيغ المصرفية الإسلامية المعاصرة كـ المشاركة الدائمة في تمويل المشاريع، والمشاركة المنتهية بالتمليك، نظراً لإمكانية تحديد وضبط صلاحيات الشريك.

ب. شركة المفاوضة (الشركة المطلقة):

المفاوضة في اللغة تعني المساواة والتفويض المطلق. وهي الشركة التي يشترط فيها أن يتساوى الشريكان أو الشركاء في كل شيء.

التفصيل والخصائص:

  • التساوي الشامل: يشترط أن يتساوى الشركاء في أربعة جوانب: رأس المال، والربح، والتصرف، وتحمل الدين (الضمان).
  • التفويض المطلق: يفوض كل شريك شريكه تفويضاً مطلقاً في جميع أنواع التجارات والتصرفات التي تخص الشركة، بحيث يكون كل منهما كفيلاً عن الآخر ومسؤولاً عن ديونه في ماله الخاص أيضاً (عند بعض الفقهاء).
  • الخلاف الفقهي: اختلف الفقهاء في جوازها، حيث أجازها الحنفية بشروط صارمة، بينما رأى آخرون أنها صعبة التحقق وقد تتضمن غررًا (جهالة) لشمولها المطلق.

ثانياً: شركة الأبدان (الأعمال أو الصنائع)

هي الشركة التي يكون محلها الجهد والعمل، وليس المال.

التفصيل والخصائص:

  • التعريف: هي اشتراك صانعين أو عاملين على أن يتقبلا الأعمال التي تسند إليهما، ويكون الكسب الناتج عن هذا العمل مشتركاً بينهما.
  • التسمية: تسمى أيضاً شركة التقبّل، لأن كل شريك ينوب عن صاحبه في تقبّل الأعمال والصفقات التي تُسند إليهم كمتعاقدين.
  • الاشتراك في الصنعة: يصح أن يشتركا في صنعة واحدة (مثل طبيبين، أو نجارين) أو في صناعات مختلفة (نجار مع حداد).
  • التقسيم: يكون الربح بينهما حسب الاتفاق على النسبة، بغض النظر عن تفاوت جهدهما في العمل، والخسارة (إن حدثت كضرر أو غرامة) تكون أيضاً حسب النسبة المتفق عليها في الربح.
  • المشروعية: أجازها جمهور الفقهاء كالحنفية والحنابلة لحاجة الناس إليها، خلافاً للشافعية الذين أبطلوا هذا النوع لغياب المال فيها.

ثالثاً: شركة الوجوه (الذمم)

هي شركة يكون محلها الوجاهة والذمة (الضمان والثقة)، وليس المال ولا العمل.

التفصيل والخصائص:

  • التعريف: يقوم الشركاء فيها بالشراء بالدين (بالآجِل) بناءً على وجاهتهم وسمعتهم وثقة التجار بهم، ثم يبيعون السلعة نقداً، ويقتسمون الربح بعد سداد ثمن البضاعة.
  • المصدر: أُطلق عليها "الوجوه" لأنها مأخوذة من الجاه أو السمعة الطيبة التي يعتمد عليها الشركاء للحصول على البضائع بالدين دون رأس مال نقدي.
  • رأس المال الفعلي: هو وجاهة الشركاء وذمتهم وضمانهم.
  • المشروعية: أجازها بعض الفقهاء (كالحنابلة والحنفية) بناءً على جواز الشراكة بأي شيء يصح أن يكون ثمناً أو عوضاً، ومنعه آخرون (كالشافعية والمالكية) لأنها تقوم على الذمم والضمانات دون مال حاضر أو عمل محدد، مما قد يؤدي إلى الغرر.

بإيجاز، تمثل شركة العقد إطاراً شاملاً ومرناً للشراكات، سواء قامت على المال المقيد (العنان)، أو المال المطلق (المفاوضة)، أو الجهد والعمل (الأبدان)، أو الجاه والثقة (الوجوه)، ما يلبي مختلف الحاجات الاقتصادية للمجتمع.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال