الاتجاه المؤكد لحجية الشهادة الطبية في إثبات مرض المتعاقد.. ترجيح شهادة العدلين بالأتمية على الشهادة الطبية بالمرض

في الوقت الذي كان فيه الاتجاه السائد في القضاء المغربي هو ترجيح شهادة العدلين بالأتمية على الشهادة الطبية بالمرض، ذهبت الغرفة المدنية بالمجلس الأعلى عكس هذا الاتجاه في قرارها المؤرخ في 11 فبراير 1987 وهي ثبت في قضية تتعلق بالغبن بسبب الجهل حين استدل مدعيه بكونه كان خلال إبرام العقد تنتابه حالات مرضية تؤثر على قواه العقلية، لكن خصمه استدل عليه بعقد البيع المحرر في ورقة رسمية شهد فيها العدلان بأنه كان "بأتمه" وأيدته على ذلك محكمة الاستئناف بفاس بقولها "ادعاء البائع بأنه كان وقت البيع تنتابه اضطرابات في قواه العقلية وما استظهر به للتدليل على ذلك من شهادة طبية يدحضه ما وقع عليه من إشهاد بالبيع وهو بأتمه كما يستفاد ذلك من عبارة العقد الرسمي".

وهو القرار الذي نقضه المجلس الأعلى وقد علل ذلك بقوله "حيث تبين أن الطاعن (البائع) أدلى بشهادة طبية من مستشفى الدولة وهي غير مطعون فيها بأي مطعن تثبت أنه كان وقت البيع يتلقى العلاج بالمستشفى عن اضطرابات عقلية إثر صدمة أحس بها كما تبين أنه كان وقت البيع تحت العلاج فإن استبعاد القرار لما تضمنته الشهادة الطبية استنادا لما هو مذكور في عقد البيع من قوله (وهو بأتمه) مع أن العدول عندما يشهدون بالأتمية إنما يستندون إلى حالة المتعاقدين الظاهرة لهما ويتركون ما خفي منها إلى من له الاطلاع الكامل على أحوالهما دون أن يبرز بما فيه الكفاية الأسباب التي جعلته لا يعتبر تلك الشهادة يجعله معرضا للنقض".

ونلمس هذا الاتجاه أيضا، لكن بشكل أقل وضوحا وحدة، في قرار صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 04 – 04 – 1990 لم يعتد بالوثيقة الرسمية المشهود فيها بأهلية البائع وقدرته التامة على التصرف، إذ أبطل البيع استنادا على أنه "لا يشترط لإبطال العقد... أن يكون الشخص المريض فاقد الوعي بل يكفي أن تكون إرادته معيبة بسبب المرض".

كما نلمسه أيضا في قرار لنفس المجلس بتاريخ 5 مايو 1993، في قضية تتعلق بالطلاق في مرض الموت، استند على الشهادات الطبية المثبتة لإصابة الزوج بمرض السرطان لاعتبار الطلاق قد وقع منه في حالة مرض الموت رغم نص شهادة العدلين على كونه كان يمشي على قدميه وتام الإدراك والتمييز وذلك بعلة "أن مرض السرطان الذي كان مصابا به الهالك والمثبت بالشهادة اللفيفية والشواهد الطبية لا يمنع من تمام الإدراك والتمييز لشخص المصاب به".

وقد سار المجلس الأعلى في قرارين حديثين على هذا التوجه المخفف من حدة حجية شهادة العدلين بالأتمية في إثبات الصحة، حتى لا نقول المؤكد لحجية الشهادة الطبية في إثبات المرض:

القرار الأول صدر عن غرفة الأحوال الشخصية والميراث بتاريخ 7 أكتوبر 1997  اعتبر الصدقة منجزة في مرض الموت رغم أنها تمت بمقتضى رسم عدلي تضمن أن المتصدق كان وقت الإشهاد صحيح العقل والميز والإدراك وبأتمه، مسايرا بذلك موقف القاضي الابتدائي الذي ثبت له مرض الموت من الشواهد الطبية ومن القرائن ولكون المتصدق توفي بعد الصدقة بأقل من شهر.

أما القرار الثاني فقد صدر عن الغرفة الشرعية بتاريخ 9 مارس 1999  في قضية تتعلق بزوج تصدق لزوجته بمنزل، فتقدم باقي ورثته بعد وفاته بمقال ضدها أمام المحكمة الابتدائية بأكادير يلتمسون بمقتضاه الحكم بإبطال رسم الصدقة لكونها صدرت من موروثهم في مرض الموت، وأدلو تأييدا لطلبهم بشهادة طبية، فأجابت المدعى عليها بأن المتصدق كان صحيح العقل وتام الميز والإدراك أثناء الصدقة وأن هذه الوثيقة تعتبر رسمية لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور فرفضت المحكمة الابتدائية الطلب، غير أن محكمة الاستئناف قضت بإبطال عقد الصدقة.

وقد طعنت الزوجة في هذا القرار الاستئنافي بالنقض مؤكدة أنها واجهت دعوى الخصوم برسم الصدقة ولفيف العقل والتمييز المتضمنين للأتمية وأن المحكمة لم تجب على دفعها رغم أنها وثائق رسمية، فأجاب المجلس الأعلى بأن "المحكمة استندت في تعليل قرارها على شهادة عدلي الصدقة الذين عاينا المتصدق أثناء الإشهاد عليه وهو في حال مرض ألزمه الفراش وهو معه صحيح العقل تام التمييز والإدراك، وعلى اللفيف.. وعلى الشواهد الطبية التي أكدت أن الهالك كان يعاني من تكتلين كبيرين لورم على مستوى المتانة ولا وجود لأي علاج طبي له.. ولم تنف الطاعنة إصابة زوجها بمرض السرطان وانتهت في تعليلها إلى أنه لا يشترط لإبطال العقد الصادر من المريض مرض الموت أن يكون الشخص فاقد الوعي بل يكفي أن تكون إرادته معيبة بسبب المرض، وقد شاهدها عدلا الصدقة بمنزل المريض، المرض الذي قطع الأطباء بعدم رجاء البرء منه مما يجعل المتصدق غير حر في إرادته ويستوجب إبطال التصرف الصادر منه، والذي مات بعده بأشهر يسيرة  الأمر الذي كان معه القرار مرتكزا على أساس، ومعلل بما فيه الكفاية وما عابت به الوسيلة القرار غير جدير بالاعتبار".

وقد كانت محكمة الاستئناف بمراكش أكثر جرأة ودقة في هذا المجال، فقد جاء في قرار صادر عنها بتاريخ 04 - 02 - 1997"وحيث إن العبرة بالأتمية هو المعمول به قضاءا اعتمادا على قول الشيخ خليل (وحجر على مريض حكم الطب بكثر الموت منه) وهو نفس تعريف التسولي (ج 2، ص240 في باب الصدقة والهبة) و(مراده بمرض الموت المخوف الذي حكم أهل الطب بكثرة الموت منه ثم أضاف: وفهم مما مر أنها لا تقبل فيه إلا شهادة الأطباء العارفين بالمخوف من غيره، ولا تقبل فيه شهادة غيرهم).

وقول المتحف كقاعدة عامة في العيوب:
العيـوب كلهـا لا تعتبـر -- إلا بقـول مـن له بهـا بصر

وحيث إن تحقيق آثار المعاملات لا يتأتى إلا بسلامة إرادة العاقد ما دام عدم سلامتها يكون عيبا يحول دون تحقيق الآثار المذكورة.
وحيث إنه بالرجوع إلى الملف الطبي وخاصة الخبرة المنجزة من طرف الخبير المحلف... نجد أنها تتضمن المراحل التي عانى فيها المريض من مرض السرطان ومحاولة علاجه بالعمليات الجراحية التي خضع لها والتي لم تفض سوى إلى تردي حالته الصحية العامة ووعيه فأصبح عاجزا عن القيام بأي إجراء إرادي في الأسابيع والأيام التي سبقت تاريخ وفاته.

وحيث أصبح أمام المحكمة دليلان هما شهادة العدلين بالأتمية وشهادة أهل المعرفة والبصر في ميدان الطب مما يتعين معه إعمال قاعدة ترجيح الأدلة.

وحيث إن العدلين عندما شهدا بالأتمية شهدا بها استنادا على الحالة الظاهرة لأنهما غير مؤهلين بأن يشهدا بأن البائع كان صحيحا أو مريضا ولا أن يحددا ما إذا كانا مرضه منذرا بالموت أم لا وغير مؤهلين للوقوف على جميع أعراض المرض ومدى تأثيرها على إرادته التي اكتفى الشرع باعتبارها معيبة بمجرد التأكد طبيا من كون المرض مخوفا.

ولذلك فإن شهادة الطبيب تعد إثباتا للعكس لكونه صاحب الاختصاص والمعرفة بحالة المتعاقد خاصة وأن هذا الإشهاد الطبي لم يوجه إليه أي طعن من طرف المستأنف عليه".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال