من المثالية الهيجلية إلى التجريبية الأداتية: تحليل نقدي للجذور الفلسفية وتطور الفكر عند جون ديوي وأثرها في صياغة مفهومه للخبرة

العوامل المؤثرة في أفكار جون ديوي:

يشتهر الفيلسوف والمصلح التعليمي وعالم النفس الأمريكي جون ديوي (John Dewey) بأنه أحد زعماء الفلسفة البراغماتية (الذرائعية أو التجريبية)، وقد تشكل فكره نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل الفلسفية والعلمية والاجتماعية والتربوية.


أولا: العوامل الفلسفية والعلمية

تأثر فكر ديوي بمجموعة من التيارات والأفكار الفلسفية والعلمية التي ساهمت في بلورة نظريته الخاصة، ومن أبرزها:

1. فلسفة هيجل (Hegel):

  • تأثر ديوي في بداياته بالمثالية الهيجلية التي استوعبها عن طريق أستاذه وزميله جورج س. موريس (George S. Morris).
  • على الرغم من تأثره الأولي، فقد قام ديوي لاحقًا بـنقد هذه الفلسفة، حيث رأى فيها "تجريبية موضوعية" لا تبرز الدور الحقيقي والفعال لـالفكر البشري في تشكيل الخبرة.
  • بقيت بصمات هيجل في سعي ديوي الدائم لـدمج الأبعاد المختلفة للخبرة (العملية، الجمالية، الجسدية، النفسية) كوحدات ديناميكية متكاملة، بعيدًا عن الثنائيات التقليدية (مثل العقل/الجسد، الفرد/المجتمع).

2. البراغماتية/التجريبية الأداتية (Pragmatism/Instrumentalism):

  • يُعد ديوي أحد رواد هذه الفلسفة، التي تتمحور حول فكرة أن الحقيقة تكمن في الأشياء التي "تنجح" أو لها نتائج عملية في سياق معين.
  • أفكار كل من تشارلز ساندرز بيرس وويليام جيمس في البراغماتية أثرت بشكل كبير على ديوي، خاصة بعد قراءة عمل جيمس "مبادئ علم النفس" (Principles of Psychology) عام 1890.
  • فضل ديوي أن يُطلق على فلسفته اسم "التجريبية الأداتية" (Experimentalism) والتي ترى أن الفكر هو أداة لحل المشكلات الناشئة عن التفاعل مع البيئة.

3. نظرية التطور الداروينية:

  • ألهمت أفكار تشارلز داروين حول التطور ديوي بشكل عميق.
  • تبنى ديوي فكرة أن السلوك البشري يتطور كتكيف مع البيئة.
  • رأى أن الفلسفة يجب أن تكون نشاطًا تقوم به الكائنات المتفاعلة مع البيئة للتكيف وحل المشكلات، بدلاً من أن تكون مجرد تأملات مجردة.

4. علم النفس الوظيفي (Functionalism):

  • ساهم ديوي في تأسيس مدرسة شيكاغو لعلم النفس الوظيفي، متأثرًا بداروين وجيمس.
  • جاءت نظريته في "القوس الانعكاسي" (The Reflex Arc Concept in Psychology) كـنقد للمفاهيم السيكولوجية التقليدية التي فصلت بين الإحساس والفكرة والاستجابة، مؤكدًا على أن الفعل النفسي هو وحدة متكاملة.

ثانيا: العوامل الاجتماعية والتربوية

تجاوز تأثير ديوي الجانب الفلسفي ليصل إلى المجالين الاجتماعي والتربوي، متأثرًا بما رآه من تحديات في مجتمعه:

1. الديمقراطية والمجتمع:

  • كان إيمان ديوي العميق بـالديمقراطية هو الموضوع الرئيسي في جميع أعماله (السياسية، التعليمية، الإعلامية).
  • اعتبر أن الديمقراطية والمثل الأخلاقي الأسمى للإنسانية مترادفان.
  • دعا إلى بناء مجتمع ديمقراطي يحقق توازنًا بين قيمة الفرد وقيمة المجتمع، ورأى أن الفلسفة يجب أن تكون سلطة تشريعية تراجع القيم الحالية وتقترح قيمًا جديدة تتماشى مع التغيرات المجتمعية.
  • جاءت آراؤه حول حل المشكلات عبر النقاش والحوار واتخاذ القرار كإعداد للحياة في مجتمع ديمقراطي.

2. الحركات الإصلاحية في التعليم:

  • انتقد ديوي النموذج التعليمي التقليدي (الذي يعتمد على الجلوس في صفوف، الحفظ والتلقين) لكونه قديمًا وغير ملائم.
  • دعاه قلقه بشأن نظام التعليم في أمريكا المتجه نحو رأسمالية "دعه يعمل" والتعاطف مع حركات مثل "دار الإسكان" (Settlement House) التي ريادتها جين آدامز (Jane Addams)، إلى الدعوة لـمدارس مختلفة تناسب أمريكا المتغيرة.
  • شدد على مبدأ "التعليم للحياة وليست إعدادًا للحياة"، وأن المدرسة يجب أن تكون مؤسسة اجتماعية تمثل بيئة اجتماعية طبيعية.
  • ركز على أهمية التعلم النشط (Active Learning) والتعليم بالممارسة/التجريبي (Experiential Learning)، حيث يتعلم الطلاب بشكل أفضل من خلال المشاركة في الأنشطة والمشاريع ذات الصلة باهتماماتهم، وليس عبر التلقين.

3. تأثيرات مربين وفلاسفة آخرين:

  • تأثر ببعض أساليب التربية الأوروبية مثل "الصف المفتوح" (Open Classroom).
  • اطلع على نظريات الإصلاح التربوي التي دعت إليها المربية والفيلسوفة الإيطالية ماريا مونتيسوري (Maria Montessori) والتي ركزت على أهمية ميول الطفل في العملية التعليمية.

يُمكن تلخيص رؤية ديوي في أن الفكر هو وظيفة حيوية تهدف إلى حل المشكلات التي تعترض سبيل الكائن الحي في بيئته، وأن الخبرة والتفاعل مع العالم هما أساس التعلم والنمو، وأن التعليم يجب أن يكون قوة للإصلاح والابتكار في خدمة المجتمع الديمقراطي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال