آداب الطعام في الإسلام: تقدير النعمة وحفظ البركة
يُعدّ الطعام في الإسلام ليس مجرد وسيلة لسد الجوع، بل هو نعمة عظيمة تستوجب الشكر والتقدير، وقد وضع النبي محمد صلى الله عليه وسلم آدابًا دقيقة للمسلم في تعامله مع الطعام، تتجاوز الجانب الصحي لتشمل جوانب أخلاقية ودينية عميقة. هذه الآداب تدور حول محورين أساسيين: تقدير النعمة و حفظ البركة.
أولًا: لعق الأصابع وسلت الصحفة
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل أن يلعق أصابعه الثلاث بعد انتهائه من الطعام. كما أنه أمر المسلمين بـ"سلت القصعة"، أي مسحها وتجميع ما تبقى فيها من طعام. قد تبدو هذه الأفعال بسيطة، لكنها تحمل في طياتها معاني عظيمة:
- البحث عن البركة: يوضح الحديث الشريف أننا لا ندري في أي جزء من الطعام تكون البركة. قد تكون البركة في آخر لقمة، أو في ما علق بالأصابع أو في قاع الإناء. هذا التوجيه يُعلّم المسلم ألّا يستصغر أي جزء من الطعام، وأن يبذل جهده لاستفادة كل لقمة.
- تجنب الإسراف والتبذير: هذا السلوك يعكس مبدأً إسلاميًا عظيمًا وهو عدم الإسراف والتبذير، فإهدار الطعام يُعدّ من الكبائر. إن لعق الأصابع وسلت الإناء هو تدريب عملي للمسلم على الاقتصاد وعدم رمي أي شيء صالح للأكل.
- التواضع والشكر: هذه العادة تُذكّر الإنسان بتواضعه أمام عظمة الخالق، وأن كل ما على مائدته هو رزق من الله، يستوجب الشكر والحمد في كل حال.
ثانيًا: حماية الطعام من الشيطان
يروي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بألّا نترك اللقمة التي تسقط على الأرض للشيطان. بل يجب على المسلم أن يزيل عنها ما علق بها من أذى ويأكلها. هذا التوجيه يحمل في طياته عدة دلالات:
- مكيدة الشيطان: يُبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتربص بالإنسان في كل شأن من شؤونه، حتى في طعامه. فإذا ترك الإنسان لقمته الساقطة، فإنه يُتيح للشيطان أن يأكل منها. هذا التحذير يُقوّي وعي المسلم بضرورة أن يكون متيقظًا لكل فعل من أفعاله، وأن لا يترك فرصة للشيطان.
- تقدير الرزق: في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأكل اللقمة الساقطة، حتى لو تلوثت، رسالة قوية بوجوب تقدير النعمة التي قد تكون غائبة عن كثير من الناس. هذا السلوك يغرس في نفس المسلم قيمة الرزق، مهما كان صغيرًا أو بسيطًا.
ثالثًا: إحسان مجاورة النعم
يُعزّز قول أبي الدرداء رضي الله عنه المبادئ السابقة في تقدير النعم. فقوله "أَحْسِنُوا مُجَاوَرَةَ نِعَمِ اللَّهِ، لَا تَمَلُّوهَا، وَلَا تَنْفِرُوهَا" هو دعوة إلى الاعتناء بالنعم وعدم التعامل معها بتعالٍ أو استخفاف.
- خطورة كفران النعم: يحذر أبو الدرداء من أن النعم إذا نَفَرتْ من قوم، نادرًا ما تعود إليهم. هذا التحذير يؤكد أن كفران النعم وعدم شكرها هو سبب لزوالها.
- التعوّد على النعم: قوله "لا تملّوها" يُنبّه إلى أن اعتياد النعم قد يُفقد الإنسان الإحساس بقيمتها، مما يجعله يستهين بها ويهدرها، وهذا هو أول طريق لزوالها.
إن آداب الطعام في الإسلام ليست مجرد إرشادات سلوكية سطحية، بل هي منظومة قيم متكاملة تُربّي الفرد على التواضع، والشكر، وتقدير النعم، والوعي بالبيئة، وتجعله في حالة اتصال دائم مع خالقه، مدركًا أن كل رزق هو نعمة تستوجب الشكر والمحافظة.