مرت الدولة الفاطمية في ثلاثة أدوار تشبه الأدوار التي مرت بها الدولة العباسية، فقد رأيت أن نفوذ الكلمة في الدولة العباسية كان في أوائلها مشتركاً بين العرب والفرس ثم صار إلى الفرس ثم إلى الأتراك، والفاطميون عرب قامت دولتهم بالعرب والبربر فكان النفوذ في أولها مشتركاً بين هذين العنصرين ثم صار إلى البربر ثم إلى الأتراك. وللبربر فضل كبير في نشر الإسلام بأواسط أفريقيا مثل فضل الأتراك في نشره بأواسط آسيا إلى الهند والصين، لأن البربر لما ثبت الإسلام فيهم نهضوا لفتح ما وراء بلادهم في أفريقية الغربية فنشروا الإسلام هناك.
فلما كانت الدولة الفاطمية في المغرب كان البربر من أنصارها، فلما أفضت الخلافة إلى العزيز بالله بن المعز سنة 365هـ، أراد التشبّه بالعباسيين فاصطنع الأتراك والديلم واستكثر منهم وقدّمهم وجعلهم خاصته كأنه خاف على حياته من البربر، فقامت المنافسة بين البربر والأتراك وعظم التحاسد حتى توفي العزيز بالله وخلّفه الحاكم بأمر الله سنة 386هـ وكان يعتقد فضل البربر فقدمهم وقرّبهم فاشترطوا أن يتولى أمورهم ابن عمار الكتامي (من البربر) فولاه الوساطة وهي كالوزارة عندهم، فاستبد في أمور الدولة وقدّم البربر وأعطاهم وولاّهم وحطّ من قدر الغلمان الأتراك والديلم الذين اصطنعهم العزيز، فاجتمعوا إلى كبير منهم اسمه برجوان وكان صقلبياً وقد تاقت نفسه إلى الولاية فأغراهم بابن عمار حتى وضعوا منه فاعتزل الوساطة وتولاّها برجوان فقدّم الأتراك والديلم واستخدمهم في القصر، ثم بدا للحاكم أن يقتل ابن عمار فقتله وقتل كثيراً من رجال دولة أبيه وجدّه فتضعضع البربر وقوي الأتراك.
فلما ملك المستنصر سنة 427هـ أصبح الجند طائفتين كبيرتين تتناقسان وتتسابقان إلى الاستئثار بالنفوذ فآل التنافس إلى حرب تعبت بها مصر واضطر الخليفة إلى استنصار الشام فأتاه أمير الجيوش بدر الجمالي من سوريا وهو أرمني الأصل فقتل أهل الدولة وأقام بمصر جنداً من الأرمن وصار من حينئذ معظم الجيش منهم وذهب نفوذ البربر وصاروا من جملة الرعية ولم يبق لهم شأن في الدولة بعد أن كانوا وجوهها وأكابر أهلها واستقل (نور الدين) من الأتابكة في الشام. وكانت خلافة مصر قد أفضت سنة 555هـ إلى العاضد بن يوسف وكان ضعيف الرأي وقد غلب وزراؤه على دولته وتنافسوا على الاستئثار بالنفوذ وطال تنافسهم حتى أخربوا البلاد والخليفة لا يستطيع عملاً. وكان في جملة المتنافسين وزيراً اسمه شاور قد غُلب على أمره فذهب إلى نور الدين زنكي واستنجده على رجل آخر كان ينافسه في الوزارة فاغتنم نور الدين تلك الفرصة للقبض على مصر وأنجده بأسد الدين شركويه في جندٍ من المماليك. وكانت الحروب الصليبية في تلك الأثناء قد احتدمت فزاد تدخّل نور الدين في شؤون مصر ونائبه فيها شركويه ومعه ابن أخيه يوسف بن نجم الدين وهو صلاح الدين الأيوبي. ومات شركويه بمصر سنة 564هـ فخلفه صلاح الدين في منصب النيابة وكان صلاح الدين من أهل المطامع الكبرى فلما قبض على أزمة النيابة وهي كالوزارة ورأى ضعف الخليفة أراد مصر لنفسه وليس لأميره نور الدين. فلما مات العاضد خطب صلاح الدين بالقاهرة للخليفة العباسي ونقل حكومة مصر من الشيعة إلى السنّة وقبض على أزمة الأحكام، وعمد صلاح الدين ومَن خلّفه من أهله إلى الاستكثار من المماليك الأتراك والجراكسة للجندية على جاري العادة في تلك العصور حتى إذا كثروا استبدّوا في شؤون الحكومة وطمعوا بالسلطة، فلما ضعف أمر الدولة الأيوبية قبضوا هم على أزمة الحكومة وأنشأوا بمصر دولتين عرفتا بدولتي السلاطين المماليك وهما المماليك البحرية والمماليك البرجية حكمت الأولى من سنة 648 ـ 792هـ والثانية من سنة 784 ـ 923هـ وكانتا تبايعان للخليفة العباسي وهو مقيم في بغداد. فلما جاء التتر وفتحوا بغداد سنة 656هـ وقتلوا الخليفة العباسي (المستعصم) فرّ من بقي من بني العباس والتجأوا إلى سلاطين مصر على عهد الملك الظاهر بيبرس وظلوا فيها والبيعة لهم حتى جاء السلطان سليم الفاتح العثماني وفتحها سنة 923هـ والخليفة العباسي عامئذ المتوكل على الله آخر خلفائهم فبايع للسلطان سليم وسلّم إليه الآثار النبوية فانتقلت الخلافة من العباسيين إلى العثمانيين من ذلك الحين.
التسميات
تشيع